2007/12/01

مقدمة في الشعر الياباني

مقدمة في الشعر الياباني


النشر الورقي :

كتاب مقدمة في الشعر الياباني ، صدر مع العدد الجديد من المجلة العربية التي تصدر في المملكة العربية السعودية ، بتاريخ شوال 1428هـ - نوفمبر 2007م.
بسم الله الرحمن الرحيم
المُقَدّمة
الحمد لله سبحانه العليم الذي فرق الناس إلى ألسنة وألوان لتتآزر معارفهم وتتعاون علومهم قال الله تعالى } يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ {؛ ( سورة الحجرات: الآية 13 ).
وأهل اليابان من الشعوب التي استحوذت على اهتمام العالم وهم جديرون بذلك الاهتمام، ومن معارفهم المهمة الشعر، فالشعر الياباني القديم والحديث، والتقليدي منه بخاصة، له تأثير رئيس على أدب العديد من الثقافات، ممثلاً في أسلوب الواكا أولاً، ثم لاحقاً في الهايكو، حيث كافح الشعراء من أجل التكثيف والإيجاز إلى جانب العمل على تحقيق الحيوية القصوى لأعمالهم؛ حتى تألقت أعمالهم مثل جوهرة براقة في هذه الأشكال شديدة الإحكام الفني، فتخطت جغرافياً حدود اليابان لتجتذب العديدين من الشعراء الغربيين المحدثين ممن نسجوا على منوالها، كما اجتذبت شعراء آخرين لم تتوغل بهم المسافة بعيداً عن اليابان مثل تايلاند وكوريا، حتى وصل التأثير إلى الثقافة العربية التي عالج نفر من شعرائها الكتابة بأسلوب الهايكو الياباني، وإنني أتصور أن قصيدة الومضة التي ذاعت وانتشرت مؤخراً ما هي إلا صورة من صور الأساليب المتحولة عن الهايكو الياباني .
وقد رأيت أن أجمع بين يدي القارئ العربي بعض المعلومات المهمة والمختصرة التي تجعله قادراً على تشكيل صورة فيها شيء من الوضوح حول الشعر الياباني وبيئته منذ القديم ، وهو نهج أستكمله باتساع في مؤلفات مستقلة حول بعض الجوانب المميزة في هذا التراث الشعري الياباني؛ وقد كان باعثي على الاهتمام بهذا المضمار من النتاج الكتابي، ما لاحظته من تماثل يبدو لي كبيراً بين بعض الأساليب والقصائد الشعرية اليابانية، ومثيلاتها من فنون الموال المصري بألوانه المنوعة .
وإنني أرجو في الختام أن أكون قد وفيت الموضوع حقه بحثاً ودرساً وعناية، فلم يخل به اختصار قصدتُ إليه ولا تجاوز تعمدتُه، وأن يكون تقصيري فيه مغفوراً وجهدي فيه منظوراً ومقبولاً ..
والله ولي التوفيق .. ..
الكاتب ( علاء الدين رمضان )

أولاً
أشكال الشعر الياباني
حتى مرحلة الهايكو



لسنا نعرف في الثقافة العربية شيئاً عن الأدب الياباني اللهم إلا ما قد يصلنا فرادى ووحداناً حول الهايكو الياباني وهو أحد الأشكال الشعرية المتطورة، ذات الجذور العميقة والمدونة .
فالاهتمام المبكر بالشعر الياباني في الثقافة العربية يرجع إلى حقبة الثلاثينيات في مصر عندما كان يدرس الطلاب اليابانيون في القاهرة، إذ حاول بعضهم ترجمة عدد من القصائد إلى العربية، لكنها كلها محاولات فردية لم تولد منهجاً للتعامل العربي مع الشعر الياباني .
ثم بدأت الثقافة العربية تتعرف إلى الشعر الياباني بعد الثورة، وبعد بزوغ فجر الطفرة اليابانية؛ ففي عام 1979م نشرت مجلة عالم الفكر الكويتية دراسة للباحث تشامبر لين حول الشعر الياباني، كما نشرت الثقافة الأجنبية العراقية عام 1985م مجموعة قصائد باشو مترجمة عن الروسية، ومجموعة من قصائد الهايكو ترجمها عدنان بغجاتي لمجلة الآداب الأجنبية السورية عام 1981م كما أن الشعراء العرب حاولوا احتذاء قصائد الهايكو في أعمالهم ومنهم شاكر مطلق الذي نشر عام 1983م في مجلة الآداب الأجنبية مجموعة شعرية له تسير على نهج الهايكو وخصائصه وصدرت عام 1997 مجموعة من قصائد الهايكو للمترجم صلاح صلاح عن المجمع الثقافي في ( أبو ظبي ) وقد حاولت الشاعرة والفنانة الكويتية شروق أمين احتذاء الهايكو ولكن بالإنجليزية في مجموعتها ( فراشة كويتية بلا حجاب ) .

ويُعـدُّ الهايكو امتداداً لعدد من الأشكال الشعرية المختلفة والمنوعة، تطور بعضها عن بعض أو نشأ بعضها مستقلاً وأدخل في خصائص الهايكو بعض سماته؛ ومن الأشكال الشعرية الشبيهة بالهايكو والسابقة عليه :

* كاتاوتا : وهو شكل يعتمد على أسلوب ( الموندو ) أي سؤال وإجابة، ويتضمن شكل ( كاتاوتا ) ثلاثة أجزاء منظمة في نسق مقطعي موزع على النحو التالي 5 – 7 – 7 ، أو 5 – 7 – 5 ؛ ويتراوح طول هذه الأجزاء ما بين 17 سبعة عشر إلى 19 تسعة عشر مقطعاً؛ وقد حدد أحد الكتاب والنقاد اليابانيين الشكل الأساسي للكاتاوتا، بأنه قصيدة من ثلاثة سطور يتكون الأول والثاني فيها من سطر قصير وآخر طويل، ويأتي السطر الأخير بطول السطر الثاني نفسه ويضاف بوصفه دعامة تساعد على تناغم الإيقاع .

* سيداوكا : وهو عبارة عن قصيدتي كاتاوتا معاً هذا من ناحية الشكل إلا أنها لا تعتمد في بنيتها التركيبية على صيغة ( الموندو ) أي السؤال والإجابة .

* تشاوكا : وهذا النمط يتكون من عدد غير محدد من الأسطر وبطول مطرد يتوقف على قدرة الشاعر وحيوية التجربة، وتعتمد بنيته الإيقاعية على تناوب سطور مكونة من خمسة فسبعة مقاطع؛ لكنها عادة تنتهي بسطر من سبعة مقاطع .

* التانكا : وهو النمط الرابع، يجري نسقه الرئيس بحسب المقاطع 5 – 7 – 5 – 7 – 7 . وتاريخ التانكا وتطوره يُعد فصلاً مهماً من فصول تكون قصيدة الهايكو، كما أن قصيدة التانكا تعد من أبرز الأنماط الشعرية في الشعر الياباني إذ أنها تتميز باستقلالية تامة؛ فبينما نرى الكاتاوتا يمكن نتاجها وفق نسق 5 – 7 – 7؛ أو 5 – 7 – 5؛ ونرى كذلك السيداوكا تتضمن قصيدتين من فن الكاتاوتا، نجد أن التانكا وحدها حافظت على شكلها الشعري المستقل بشكل متماسك .
لقد اشتهرت التانكا بوصفها قصيدة يشترك في تأليفها شاعران، ومن أقدم نماذج التانكا التي اضطلع شاعران بتأليفها، تلك القصيدة التي نظمت راهبة جزءها الأول، وأتم الجزء الآخر منها الشاعر ياكاموتشي :
امرؤ زرع حقول الأرز
باستخدام مياه
نبع ساهو
[ الراهبة ]

الأرز في مطلع نضجه
هل أكلته بمفردك ؟.
[ ياكاموتشي ]

* رنجا : أما رنجا فعلى الرغم من وجود نماذج لها إلا أن الاصطلاح على تلك النماذج باسم ( رنجا ) لم يظهر إلا عام 1127م في مختارات ( كينو واكاشو ) أما النماذج التي سبقت العام المذكور فقد كانت تندرج ضمن نماذج التانكا .
ومما يذكر أن الرنجا تطورت تدريجياً من مجرد أسلوب للتسلية في لقاءات الواكا إلى شكل شعري مستقل . يذكر ( تائيكا 1162 – 1241 م ) في دفتر يومياته أنه فاز بأربعين رهاناً في لقاء ( رنجا ) ذات مائة وصلة عُقِدَ في أحد القصور .

* هوكو : والهوكو قصيدة المطلع لقصيدة مسلسلة ، تُدعى ( هايكاي نورنجا ) وتسمى اختصاراً ( هايكاي )؛ ثم اتخذت الهوكو شخصيتها المستقلة، وسميت هايكو على يد ( شيكي )، لكن وجه الاختلاف الوحيد بينها وبين قصيدة الهوكو أن الهايكو كانت تكتب وتقرأ وتُفهم بوصفها قصيدة مستقلة مكتملة قائمة بذاتها .

* الهايكو :
كانت تعد قصيدة " رنجا ( الشعر المترابط ) "، إحدى الطرق للتمتع بأسلوب " تانكا ". وفي الأصل، أسلوب " رنجا " استند على أسلوب مجامل يتكئُ على الأحداث التاريخية المقتبسة من الكلاسيكيين . وخلال القرن السادس عشر، اضمحل استعمال هذا الأسلوب، كما أن " الهايكاي " زادت شعبيته . وقد مال " الهايكاي " إلى تضمين المرح والمُلح هو طريق أخرى للتمتع بـ" التانكا "، حيث الأسطر الأولى منه تتكون من خمسة وسبعة وخمسة مقاطع وبعد ذلك من سبعة وسبعة مقاطع مؤلفة بوساطة شعراء مختلفين . المقطع التالي يتألف من سبعة وسبعة مقاطع، يُسمى " تسوكي - كو " ( أشعار مترابطة، أو أشعار ذات بعد انتمائي، أو أشعار متضايفة ) . في حالة كلٍ من " رنجا " و" هايكاي "، المقطع الأول يتكون من خمسة وسبعة وخمسة مقاطع، وهو ما يُسمى " هوكْ – كو " الذي يعني " شعر المطلع " وهو يجب أن يتضمن " كيجو " ، تلك كلمة تشير إلى " فصل " أو موسم . وفي النهاية، أسلوب " هوكْ – كو " الجديد كان سيتحقق بوصفه شكلاً مستقلاً من الهايكاي ، وفي عصر ميجي، ماساؤكا شيكي ( 1867 – 1902 ) سماه " هايكو "وفي الوقت الحاضر هذا النمط الشعري الياباني " هايكو " اجتذب العديد من الأتباع والمحبين من كل أنحاء العالم.
وقد ذاع صيت عدد كبير من شعراء " الهايكاي " و" الهايكو " من العصور السابقة، فمن أهم شعراء الهايكو الأوائل الذين أثَّروا في مسيرتها : الشاعر ماتسو باشو ( 1644 – 1694 )، في القرن السابع عشر الذي كان أول من اختصر قصيدة الهايكاي نورنجا إلى هايكو بكل ما تحمله من خصائص ساخرة ومنتقدة وكذلك الشاعر ييجما أونتسورا ( 1661 – 1738 ) الذي حاول أن يلتزم فيها بما أسماه النزاهة الفنية ( ماكوتو ) وهي الفكرة التي تطورت حتى صارت واحدة من أهم الأسس النظرية للشعر الياباني، و يوسانو بوسون ( 1716 – 1783 ) صاحب اللغة الحادة الفريدة .
باشو دافع عن مساحة من " الهايكاي " تلك التي نزعت بين يديه بجموح نحو تضمين المُلح واللعب على الألفاظ . لقد جمَّع منظراً جديداً للشعر الياباني بكتابة قصائده التي تخلق جواً متناغماً من : السذاجة والفطرة الأنيقة، والشعور العميق بالتعاطف تجاه كل من الطبيعة والإنسانية، والتصريح المكبوت، و النغم الذائع؛ ليشكل باشو أسلوبه الذي يركز رؤيته من خلاله على مزاج الـ " يوجين " ( العمق الروحي ) . هذا الأسلوب الإبداعي قد صُمِّمَ لإظهار الجمال الداخلي للفن والطبيعة على نجو بليغ، كما أنه عمل على استدعاء المشاعر القوية من " كانجاكو " ( العزلة الهادئة ) . هو أيضاً ألف العديد من القصائد التي كانت متأثرة بأفكار الفيلسوف الصيني القديم تشوانج تززي . يوسانو بوسون أيضاً ألف العديد من القصائد التي تستعمل كلمات محنكة ولديها القدرة على إبراز عالمها الرائع، الذي كان مختلفاً تماماً عن أسلوب باشو .
كما ساهم في تشكيل المضمون الإبداعي لقصائد الهايكو الحديثة الشاعر ماساؤكا شيكي ( " شيكي " يعني حرفياً الوقواق الياباني ) الذي انتقد باشو معلناً رأيه بأن " الهايكو " الذي ألفه بوسون كان أكثر تهذيباً تقنياً من ذلك الذي كتبه باشو . لقد أصر على أهمية " شاسيئي " ( التخطيط ) لخلق هايكو معبر في أسلوب مختصر، باستعمال الأوصاف البصرية . هذه الأفكار كانت تنبه على أهمية " الهايكو " بين معاصريه آنذاك .
ومحصلة القول : إن قصيدة الهايكو هي درة الشعر الياباني، وتعد من أكثر أشكاله شهرة وأهمية، وهي قصيدة تتكون من 17 مقطعاً موزعة على ثلاثة سطور، أقدم نماذجها المجموعة، المعروفة، ترجع إلى القرن الثامن الميلادي في بعض الآراء . لقد تطورت قصيدة الهايكو من ( رنجا )، فـ( هايكاي )، فـ( هوكو )، فـ( هايكو ) الذي بدأت مرحلته من العام 1650م تقريباً . ويرفض الشاعر ( شيكي ) الاعتراف بوجود الهايكو قبل مرحلة جنكو وكو ( 1668 – 1703 م ) مؤكداً وجود نماذج لهذا الفن قبل ذلك العصر إلا أنها تظل من وجهة نظره نماذج لا يُعْتَدُّ بها . ولهذا الرأي وجاهته إذ أن الهايكو لم يتحقق وجوده بوصفه شكلاً شعرياً لقصيدة مستقلة إلا في العام 1891م؛ أي بعد شيكي ولكن هذا لا يعني أنها ظهرت فجأة بل سبق ذلك تاريخ طويل لتكونها وتحولاتها . وهذه القصيدة كما يراها باشو تطمح إلى نقل حالة الصفاء المحيطة بالموضوع الطبيعي والابتهاج بمعرفة حقيقة الأشياء وبصائرها ( باشو: هايكاي رونشو، 71 ؛ وكينيث ياسودا: الهايكو اليابانية، 17 ) .
ومما يثار حولها أنها قصيدة نبتت في مسيرة الشعر الياباني وتطورت حتى أخذت اسمها وشكلها الكلي في حقيبة التسعينيات من القرن التاسع الميلادي على يد ماساوكا شيكي ( 1867 – 1902م ) ثم شاعت بنمطها الإيقاعي في أعمال عدد من الشعراء الكبار من أمثال : ماتسو باشو ( 1644 – 1694 م ) ويوسابوسون ( 1716 – 1784م ) وكوباياشي آسا ( 1763 – 1827م )؛ ولكنهم سموها ( الهوكو ) أي قصيدة المطلع ، وكانت في أشعارهم هي القصيدة المطلع للقصائد التي كانت تعرف باسم ( رنجا ) وتمثل قصيدة مكونة من حلقات مسلسلة . وبمفهوم الرسم التخطيطي الفطري ( شاسي ) بدأ شيكي ومن سار على دربه ومنهجه في تطوير الهايكو ، حتى صدرت مجلة ( هوتوتو جيسو ) عام 1897م التي كانت مكرسة للهايكو .
يقول هندرسون : " شكل قصيدة الهايكو ياباني ذو خصوصية ومع ذلك فأنا أعتقد بقوة أنه يمتلك خصائص تتجاوز حدود القومية واللغة، وهو ما يجعل هذا الشكل ملائماً لاحتلال مكان خاص به بين أشكال الشعر العالمي " ( هندرسون: المكنسة الخيزرانية، 124).
وقد تحقق ذلك عندما شاعت قصيدة الهايكو في الإنجليزية حتى صارت فناً متداولاً في الثقافة الإنجليزية له قواعده الصارمة التي ترضي الذوق الإنجليزي في أدق خصائصه، وأبرز شعراء الثقافات الإنجليزية الذين كتبوا قصائد الهايكو ( عزرا باوند ) و( آمي لويل).
والشاعر في فن الهايكو يعالج تجربة قائمة على الموضوع الموسمي ذي العلاقة الوثيقة بمفردات الطبيعة المحيطة، وهذه التجربة تكون في الهايكو مقصودة لذاتها ولا تملك قيمة خارج موضوعها . فتهتم هذه القصائد بما يسمى بالموضوعة الموسمية وهذه الموضوعة تعني إلزام الشاعر بأن يُضمِّن قصيدته إحساساً بموسم من مواسم السنة تتعامل معه القصيدة؛ ولكن هذه الموضوعة وجدت عند بعض المحدثين معارضة إذ رأوا عدم ضرورة تلك الموضوعة ما دام الإحساس بالطبيعة قائماً .
ولا يجوز في الهايكو الاستعانة بالبلاغة البيانية من تشبيه واستعارة لأن من المقومات الرئيسة للهايكو نظرية البنية، ومع ذلك فإن هذا الفن يعتمد على بلاغة البديع إذ يتاح للشاعر استخدام بعض المظاهر البديعية مثل الجناس الذي هو أبرز البلاغيات التي يعتمد عليها الهايكو .

· دروس في الهايكو
زهور جميلة تزهر، ثم تسقط وتذوي . الحياة والذبول كأنها الميلاد والموت . فالطبيعة تغدق جمالاً وإثارة على يد واحدة، لكن قبضات القبح والرعب تكمن عند الجانب الآخر .
"عندما مسته الطبيعة،
قلبك تعلم كيف يفكر،
يشعر، يرضى،
يرثي، يتشوق، ويؤسي ".
لذلك حيث يكون الشعر والهايكو .. يكون الميلاد . أعشاب مجهولة تظهر على جانب الطريق إلى قوة الحياة، بينما محارة هاربة من كلمات سيكادا إلى أعجوبة الحياة. الإحساس الوجداني بتقلبات الفصول الأربعة تهب الميلاد للهايكو . حتى ذلك الذي لا يهتم منكم بالهايكو سوف يمتلك حتماً لحظات من الإثارة مع الطبيعة وكلمات العاطفة الملفوظة . ذلك فقط هو ما نطلق عليه " هايكو " . فالإثارة تأتي من مولد الكلمات التي تعد محصلة في نظام 5 ، 7 ، 5 مقاطع الأكثر ألفة في شعر الهايكو . وهو أكثر الإيقاعات دعة في اللغة اليابانية على الإطلاق .

· الشروط الرئيسة لهايكو اللغة اليابانية :
إنه مهم جداً أن يشعر الشاعر بالحرية ليكتب قصيدة هايكو بطريقته . لكن هناك شروط أساسية محددة يجب أن يلاحظها بوصفه شاعر هايكو . فهناك عدد من الشروط التي يجب توافرها لدى الشاعر لصياغة قصيدة بأسلوب الهايكو، ولنبدأ بأهم شرط من تلك الشروط المرتقبة :
* الشرط الأول :
قصيدة الهايكو القصيرة، تتضمن 5 ، 7 ، 5 مقاطع . هذا هو الشرط الأول .
فلنتصور جبلاً ثلجياً سابحاً بين أمواج بحر بارد . إنه يُظهر – وحسب – جزءاً صغيراً يعلو صفحة البحر بينما الجزء الأكبر منه مختفٍ تحت الماء . فمثل جبل ثلجي يظهر الهايكو جزءاً صغيراً جداً في 5 ، 7 ، 5 مقاطع ، بينما يترك عاطفة الشاعر والرسائل غير الملفوظة متوارية تحت الماء . فإذا حاولنا أن نحشو أكثر مما يلزم في الهايكو الذي يحتمل وحسب عدداً صغيراً من الكلمات، فستكون الرسائل آنئذ نثاراً رقيقاً جداً ذا مغزى . لذا فهو الرهان ( الأفضل )، مثل جبل ثلجي، إذ يكشف جزءاً وحسب، بينما يحذف أو يترك قدراً محتملاً تحت الماء لخيال القارئ .
باندفاع في kakekon de ( كا ـ كي – كو_ؤن = خمسة مقاطع )
ارتباك فوق الأمواج namini tsumazuki ( نا ـ مي ـ ني ـ تسو ـ ما ـ زو ـ كي = سبعة مقاطع )
يسبح الأطفال oyogu koyo ( أو ـ يو ـ جو ـ كو ـ يو = خمسة مقاطع ) .
[ كُتيب كلمات موسمية ( سايجيكي Saijiki ) إعداد كيوشي .]
يمكن بسهولة أن نرى أن هذا الهايكو نُظِمَ عند شاطئ البحر، وليس عند جانب البركة . ونجد أن تعبير " يتعثر على الأمواج " يحمل صورة شديدة الوضوح للأطفال الذين يدفعون أنفسهم في خضم موج البحر، يجاهدون ضد الأمواج المقاومة، وسباحة نحو الماء الأعمق . فالأطفال " يودون ألا يضيعوا وقتاً من السباحة "، فلا يظهر بشكل واضح في الكلمات لكن الدلالة الجيدة في الملاحظة النهائية والواصفة لهم كما في " باندفاع وارتباك فوق الأمواج " . دلالة أمنيات الأطفال تتطابق مع الجزء المختفي من جبل ثلجي الذي يطور العالم التخيلي للقارئ..
ثم نتحرك الآن إلى الشرط التالي للهايكو .
* الشرط الثاني :
الهايكو قصيدة ولدت من كلمة " فصل " . فالهايكو يكرس لرفعة الطبيعة والحياة اليومية في الشعر بوساطة التعبير بالكلمات الموسمية . من وقت الاستيقاظ إلى النوم، عندما نأوي إلى الفراش، فالحياة اليومية داخل البيت وفي الخارج مليئة بالأحداث اللطيفة والمضجرة، هناك أشياء نريد أن نعملها، شئون مع الأصدقاء أو أفراد العائلة . فالحياة – علاوة على ذلك – تشتمل على ليل خليٍّ حالم، أو ساعات الأرق الباردة جداً أو الحارة جداً . الهايكو يجعلنا نتوقف للتفكير في كل هذه القضايا الرتيبة التي تجعلنا على صلة بكل التقلبات على الأرض، تلك التي تلي التغير الموسمي للفصول ؟. وكذلك يجعلنا ندرك مفهوم الطبيعة القائمة أما أعيننا المحايدة وقلوبنا غير المنحازة ؟. كل ذلك من خلال كلمات موسمية ترمز إلى العلاقة بين الطبيعة والبشر. فالهايكو شعر أظهر نفسه من خلال الكلمات الموسمية : وهذا هو شرط الهايكو الثاني .
* الشرط الثالث :
الإيجــاز : من أبرز القواعد الرئيسة للهايكو، الاختصار في بعض القصائد الطويلة. ربما بعد الحديث عن الاختصار لن نجد ما هو أكثر أهمية هنا عند الحديث عن الهايكو. فقد عرَّف قاموس كوجين معنى " الحذف " بأنه اختصار وحذف بعض الأجزاء في مرحلة الإيجاز . لقد قدمت التعريفات مفهوم الاختصار ومفهوم الحذف بأنهما يتطلبان مزيد عناية وحذراً . فتكتسب القصيدة من الهايكو حياتها عندما نحدد لها بنجاح كلمات دليلية للتعبير في سبعة عشر مقطعاً . فالكلمات الحية ما هي سوى بنية غامضة تحمّلها دلالاتها رسائل ضمنية . ومع ذلك سنجد أننا وإن كنا مؤهلين لأن نقول الكثير، فسنجد صعوبة في الاكتفاء بقول القليل، أليس كذلك ؟.
إذ يمكننا أن نقاوم بصعوبة قول كل ما نعرف حول موضوعنا المفضل، وسنجد من الصعوبة ثانية أن نهمل الكلمات المفضلة . فبينما من المفترض أن ننمي معارفنا، نحتاج إلى أن نتعلم كيف نتخلَّى عن كلماتنا لأن الهايكو قد يحمل فقط تلك التي لا يمكن اقتصادها إيجازاً .
taiyo no
yatto nozoita
tsuyu no sora
(Masaaki)
glimpse of the sun
showing finally
break of rainy season
لمحة الشمس
تُظهر أخيراً
إجازة الفصل المطير
هذا نص كتبه ( ماسَّاكي ). وعلى ما يبدو فهو يستشرف الفصل الممطر الكئيب ويتوق في لهفة للعب في الهواء الطلق . إن بهجته الفتية تتلألأ في مشهد الشمس فتظهر أخيراً خلاله إجازة المطر . كل هذه العواطف مطمورة لكنها أسفرت في كلمة " أخيراً " .
والتالي أيضاً هايكو كتبه (تييتشي).
oshiire ni
chiisaku natta
natsu boshi
( Teiichi )
in the closet
grown small
summer hat
في الخلوة
نمت صغيرةً
قبعة صيف
إن الأطفال ينمون بسرعة على نحو يدعو للاندهاش . في يوم واحد تقريباً، أمهات قليلون سيجدن فجأة أطفالهم المتنامين لا يهابونهن . قبعة صيف صغيرة وجدت عرضاً في خلوة الهوى، ويستمد الشاعر مشاعر سابقة مولعة بالطفولة " أنا اعتدت أن أكون طفلاً صغيراً " كانت تتدفق صوب قلب تييتشي. لكنه أخفى مشاعره بدقة للإيجاز مستخدماً الإشارة والإيحاء .
فالهايكو الذي يكثر فيه الحشو سوف ينحرف بعض الشيء بعيداً عن الإعجاب . بينما الإيحاء هو روح الهايكو الذي يشتمل في كيانه الكامل على سبعة عشر مقطعاً.
لقد ترك باشو بعض الملاحظات المثيرة على مفهوم الحذف : " قال كل شيء، لم يترك شيئاً " . ذلك يعني أنه إذا تركت فلا شيء لم يذكر، فأنت لن تترك مجالاً للقارئ ليدرك رسالة ضمنية .
* الشرط الرابع :
التنقيــح : هنا خطوة أخرى قبل تعميم قصائد الهايكو . تدعى " التشذيب " أو التنقيح . الذي يبدأ بقراءة قصيدة الهايكو المكونة من سبعة عشر مقطعاً . بحثاً عن الارتياح تجاه إيقاع الـ 5 – 7 – 5 ؟. فالهايكو " أغنية "، ويشبه الموسيقا، خطوات وفواصل متناسبة القيم، وكلمات معبرة بدقة، لذا يفشل الهايكو في حمل الإثارة أو الانطباع الأولي المتشكل لدى شعرائه عند صوغ القصيدة. فلو خرجت القصيدة من الهايكو عن الوزن العروضي، يجب إصلاحها بتنقيح العبارات والتعبيرات، والتدقيق في موسيقاها الظاهرة والباطنة .
وكذلك الألفاظ نفسها يقتصر الهايكو على ما كان بحاجة ملحة إليه من ألفاظ ، للتعبير عن الحالة بدقة دون حشو أو استطراد، كما أنه يلزم أن نصادف تلك النغمة الملائمة في مادتنا من الكلمات، فالكلمات هي تلك المجموعة من نغمات الصوت الخارجي ربما تكون أحياناً مقبولةً بوصفها كينونة فريدة، لكنها تكون في أكثر الحالات مزعجةً للقارئ .
والفيصل هنا مشاعر التلقي، فالتعبيرات الرتيبة مثل ( كو – نا – ني – تشي – وا ) أي : " مساء الخير "، و ( سا – يوو – يو – نا – را ) أي : " مع السلامة "، و( آ – ري – جا – تو – يو ) أي : " أشكرك "، و( أوه – ني – جا – إي – شي – ما – سو ) أي : " اعذرني " ..؛ تشتمل على خمسة أو سبعة مقاطع . يمكننا أن نقدم المزيد والأكثر من التعبيرات المكونة من سبعة أو خمسة مقاطع، ذلك الصوت سيكون جيداً وطبيعياً جداً عندما تتلفظ به وربما لا يكون كذلك داخل قصيدة .
تعابير تلك الأصوات اللغوية الطبيعية نطقاً والمرهفة سمعاً هي الطريق السهل إلى قلب الجمهور . يمكننا ذلك من فهم أهمية التنقيح الواعية من أجل نغمة صافية . ثمة خطوة نهائية واحدة في طريق التنقيح هي تعهد الهايكو مرة لوقت أطول والتأكد من أنه يحتوي على كلمة موسمية واحدة لا أكثر .
ثم يضاف إلى الشروط السابقة أهمية اشتمال القصيدة على ما يمكن تسميته ( الرسائل الضمنية ) :
* الرسائل الضمنية :
يعد استخدام التناظر الوظيفي لجبل ثلجي، والحذف، والرسالات الضمنية، كلها أسس مرتبطة على نحو تلازمي في قصيدة الهايكو. فالحذف المقدَّر جيداً يولد رسالة ضمنية نافذة .
رسالة دالة تتولد من محذوف لا غنى عنه بشكل أساسي للهايكو . رسالة دالة أو ( يو – إن ) هي التي تستنتجها مما يظهر في الكلمات . كقصيدة تستعمل عدداً قليلاً من الكلمات، الهايكو يُقدِّر أنه يمتلك في مخزونه سعةً وعمقاً لنظام من المضمنات . " يو – إن " عالم لا نهائي من الخيال الذي يكون متأثراً جداً بكل كلمة يلفظها.
وقد ساق النقاد أمثلة لتقدير الرسائل الضمنية الدالة " يو – إن " في عدد من قصائد الهايكو المؤلفة بوساطة مبتدئين :
mokusei no
nioi ni
itsuno mani ka eki
(Yasushi)
sweet osementhes
fragrance
station drawn closer
زهرة الأوسمينثيز الحلوة
أريجٌ
محطة تقترب
إن الشاعر يمشي على الطريق المألوف صوب المحطة . وهو معتاد على معالجة المسافة؛ لكنه هذا الصباح الاستثنائي تنسم أريجاً طيباً يأتي من مكان ما . " أية رائحة حلوة ! " إنه يتمتع ويمشي قُدماً ليقابل رائحة طيبة أخرى، وما زال يجتهد في تتبعها أو تفقّدها : " عجباً، هذا البيت عنده نبات الأوسمانثوز مزدهر جداً " إنها الإثارة. نحن يمكن أن نتخيل منطقة سكنية هادئة بمنازل مصطفة تمتلك شجرة معطرة أو اثنتين في الحديقة . لعله وصل المحطة قبل أن يعرف بينما هو تمتع بالرائحة البهيجة في الطريق . هذا الهايكو يمنحنا رسائل غير ملفوظة أو ( يو – إن ) للرائحة الحلوة، والفورة ( التفجر العاطفي ) والإثارة العذبة للشاعر .
وفي قصيدة أخرى كتبها شاعر مبتدئ أيضاً :
biwa mukeba
pun to nioeru
ka no amaku
( Kikuro )
peeling loquat
scent rising
so sweet
قشرة أشجار اللوكويت
اشتمّ طلعها
إنه حلو جداً
نجد أن ( كيكورو ) يحب أشجار اللوكويت بشغف كبير، لنفترض ذلك . هو سيقشر ثمرتها ويؤكد على وجود الرائحة المألوفة بشكل مثالي، " نعم ، هكذا تكون ". هنا نتلقى رسالة ضمنية من مشاعره المؤقتة، كأنه قشر وأكل الثمرة .
الآن يمكن إيجاز ما سبق في أن للهايكو قاعدتين :
(1) الهايكو يجب يكون مكتملاً إذ يتكون من ( 5 – 7 – 5 ) مقاطع.
(2) الهايكو يقدر الطبيعة والحياة بوساطة معاني كلمات موسمية، فيجب أن يكون الشاعر مستعداً لصياغة قصيدة هايكو مباشرة. وهو سوف يعرف قصيدة الهايكو الأفضل عند صوغها .

وإذا كنا نعد الهايكو مفصلاً قنياًُ وأدائياً وتأريخياً لأنماط الشعر الياباني، فنجد أنه قد سبق بقصيدة كانت تعد كذلك أيضاً وظلت تحمل قيمتها حتى بعد ظهور الهايكو ؛ فمن أشهر أساليب الشعر الياباني قبل الهايكو : قصيدة الواكا وهي التي تطورت فيما بعد لتصبح ما عرف باسم التانكا، لذا فإنه من المهم التوقف عند هذا اللون من أساليب الشعر الياباني بالتوضيح لما لعبته قصيدة الواكا في الشعر الياباني بعامة من دور مميز، إذ يرجع جل التراث الشعري الياباني إلى هذا اللون فهو المشارك الرئيس للهايكو، بل إن الهايكو هو العدو الأول للواكا لأن الهايكو قد هز عرش قصيدة الواكا بعد تسيد طال على مر العصور .

· الواكا ..
الواكا شكل تقليدي من أشكال الشعر الياباني، وقد عرف فيما بعد بالتانكا، وهذا خلط إذ أن التانكا شكل من أشكال الواكا؛ وتمارس الواكا في أحد أسلوبين رئيسين، فتتضمن : شوكا وهو نمط يعني قصيدة طويلة تتشكل من عدد من الأسطر المتناوبة من خمسة و سبعة مقاطع تنتهي بسطر مكون من سبعة مقاطع إضافية . أما التانكا فهو أسلوب أقصر من الشوكا تتضمن خمسة أسطر مكونة من 5 ، 7 ، 5 ، 7 ، 7 مقاطع مرتبة على التوالي .

و تمارس الواكا بعدة طرق منها :
1 – أوريكو ( تخطيط لقصيدة رنجا ) : عندما يختار المقاطع الأولى من أي سطر من 5 ، 7 ، 5 ، 7 ، 7 مقاطع وزنية ( عروضية )، و يجب أن يتضمن خمسة كلمات مميزة مناسبة، ذلك التعلق النموذجي بالمحتوى الأساسي للقصيدة .
2 – تسوكيكو ( شعر وطني ): التركيب التالي لـ " مَائيِكو "، ( شعر متقدم بأسطر تمهيدية من 5 ، 7 ، 5 مقاطع )، شاعر آخر يؤلف " تسوكيكو " ( أسطر إضافية وختامية من 7 ، 7 مقاطع ) التي تفتق مشاعر المائيكو.
3 – رينجا ( شعر مسلسل ) : شاعر أو أكثر يعدون مقاطع متناوبة من قصيدة طويلة . الشعراء المتوالون يساهمون تباعاً بأشعارهم في إنشاء قصيدة مبدعة من مائة مقطع شعري .
وهناك أنواع أخرى من الواكا ، مقسمة بحسب الموضوعات والأغراض، منها:

· تشوكا = الشعر الطويل :
شكل من أشكال قصيدة الواكا بضم المقاطع المتكررة المكونة من خمسة وسبعة مقاطع والتي تنتهي بالأسطر المكونة من سبعة وسبعة مقاطع . وهو يُتْبَعْ عادة بوساطة " الهانكا " ( الذي يتضمن من واحد إلى بضع قصائد مروية، مكملاً أو موجزاً محتوى " التشوكا " ) .

· التانكا = الشعر القصير :
شكل من أشكال الواكا ينظم في خمس مجموعات مكونة من 5 – 7 – 5 – 7 و 7 مقاطع . وقد رسخ هذا الشكل في حقبة مانئيو المبكرة وكان الشكل الأكثر استعمالاً على نطاق واسع من العصور القديمة وحتى العصر الحاضر. هو في حد ذاته " تانكا " تُماثل غالباً " الواكا " .

· سيدوكا = تكرار مطالع القصائد :
شكل من أشكال " الواكا " يُنظم في ست مجموعات مكونة من 7 – 7 / ثم 5 – 7 – 7 مقاطع التي تتميز بمجموعات مقاطع النهاية الثلاث المتكررة من البنية نفسها مثل مجموعات البداية الثلاث . لقد كان في الأصل واحد من الأشكال الشعرية المستخدمة لطقوس القصر الإمبراطوري . فقبل حقبة نارا، كان من المحتمل أن يلقى بوصفه إرجاعاً كورالياً لحوار . هذا الشعر إذن كثيراً ما يُنظم بوصفه قصيدة بالادا شعبية .

· رينجا = شعر مسلسل :
سلسلة من المقاطع الشعرية، قصيدة طويلة مكونة من 5 – 7 – 5 مقاطع تُقْرأ بشكل متعاقب مع أخرى قصيرة مكونة من سبعة وسبعة مقاطع . في مختارات " مانئيوشو "، أخذ في الغالب شكل تركيب مشترك من " التانكا " مع مقطع شعري طويل يُقْرأ بوساطة أحد الأشخاص ومقطع شعري قصير يلقيه شخص آخر في استجابة للشعر الطويل .

· بوسُّوكوسيكي كاتاي كا = أشعار في هيئة تراتيل لاحتذاء نهج بوذا :
شكل شعري يقوم على واحد وعشرين قصيدة كتبت على الحجارة، ونقشت مع آثار بوذا التي يقدسونها، وهي قصائد تمدح نهج بوذا وتشتمل على عظات التعاليم البوذية . وهي تتكون من ست مجموعات من 5 – 7 – 5 – 7 – 5 – 7 مقاطع، مع مجموعة المقاطع السبعة الأخيرة أضيفت إلى الشكل الشائع للواكا إلى جانب التكرار أو إعادة تعبيرات الأشعار السابقة .

ثانياً
المجموعات الشعرية اليابانية :


تتميز الثقافة الشعرية اليابانية بكم كبير من المجموعات الشعرية التي تنتظم تقاليد عصرها الشعرية وتنطوي على أبرز القيم الاجتماعية والسياسية والثقافية لحقبها، كما أنها تخلد في أضابير التاريخ شعراءها وتضيف إلى ذكرهم، وقد اعتادت الامبراطوريات أن تجعل كل واحدة منها لنفسها مجموعة شعرية يتصدى لجمعها شاعر أو ناقد كبير، ومن هذه المجموعات الشعرية اليابانية، ما يأتي :

** مانيوشو Man'yoshu :
مانيوشو شكل شعري ياباني تقليدي، ظهر في عصر أسوكا ( من منتصف القرن السادس وحتى منتصف القرن السابع ) وهو يحتوي على العديد من قصائد " الواكا " . ( والمانيوشو يعني : " مجموعة تنوقلت خلال عشرة آلاف سنة "، أو هو يعني " المجموعة المكونة من عشرة آلاف ورقة " )، وهي من أقدم مختارات الواكا الموجودة في اليابان . وهي تتألف من عشرين جزءاً، تتضمن حوالي أربعة آلاف وخمسمائة قصيدة في شكل القصائد الطويلة، والقصائد القصيرة، وقصائد المطلع، رنجا أو مقاطع شعرية مسلسلة ، وأيضاً " باسوكوسيكي – كاتائي – كا "bussokuseki-katai-ka"، قصائد ورسائل صينية، من المتوقع أن مدى تاريخ إنشائها وازدهارها وتسيدها يصل إلى حوالي 350 سنة، بدءاً من عصر الإمبراطور والإمبراطورة نينتوكو ( النصف الأول من القرن الخامس )، وحتى سنة 759م في عهد الإمبراطور جانجين . وقد جمعها أوتومو نو ياكاموتشي . بعض تلك القصائد كان ( أغان من الشرق " azuma-uta " ) ، نظمت لهجياً ( قصائد عامية )، و" ساكيموري أوتا sakimori-uta "، قصائد نظمها جنود حرس الحدود، الذين جندوا من الشرق الريفي لحراسة منطقة شمال كيشو الحالية . العديد من هذه الأشعار نُظِمت بعامية ذات سحر متميز، غنية بإحساس إنساني عميق، يجسد على نحو مستقيم المشاعر العاطفية للحياة الحقيقية .

** مجموعات الواكا الإمبراطورية :
مجموعات واكا ( شعر البلاط الياباني من القرن السادس وحتى القرن الرابع عشر ) وقد جُمعت بالأمر الإمبراطوري بدءاً بالكوكينشو، ( مجموعة من عصور قديمة وحديثة )، في حقبة الإمبراطور ديجو ( مطلع عصر هيان 897 – 930 ) . منذ ذلك الحين كان هناك ما يربو على واحد وعشرين مجموعة، للشاين زوكو كوكينشو "Shin zoku kokinshu"، ( التكملة الحديثة للكوكينشو )، التي جُمِعت خلال عهد الإمبراطور جو – هانازونو ( عصر مروماتشي 1428 – 1464 ) . هذه المجموعات عُرفت بوصفها المجموعات الإحدى وعشرين الملكية .
من بينهم الكوكينشو، و الجوسينشو ( مجموعة بريد كوكينشو ) و الشويشو ( المنتقيات )، والتي تسمى " المجموعات الملكية الثلاث ". هذه الثلاثة معاً مع الجوشويشو ( منتخبات بريدية )، الكين أوشو ( مجموعة الأوراق الذهبية )، الشيكاشو ( المختارات الأدبية )، السينـزيشو ( مجموعة القصائد الألف )، و الشين كوكينشو ( الكوكينشو الجديدة )، تسمى الثمانية الملكية .
وتُعد الجينئيبون أقدم مخطوطة تضم إصداراً كاملاً من كاناجو kanajo، وكل الأجزاء العشرين من الكوكين - واكاشو "Kokinwakashu" . هُيِّأت أغلفتها بوساطة الـ" ريوشي " الذي يصنع بوساطة طباعة أنماط مختلفة فوق أنواع عديدة من الورق المصبوغ، الذي يظهر - من ثم - مع : كيري - هاكو، نوجي، و سوناكو ( أنواع متعددة من ورق مذهب وفضي لامع .. إلخ ). خط اليد الرشيق يتجرأُ ليكون كذلك من فوجيوارا نو سادازان، حفيد فوجيوارا نو يوكيناري الذي كان أخصائي تصوير وزخرفة مشهور في عصر هيان الوسيط .

· من المجموعات الامبراطورية :

كوكينشو :
الكوكينشو هي مجموعة الواكا الإمبراطورية التي جمعها كل من : كينو تومونوري ، وكينو تسورايكي ( 872 – 945 ) ، و أوشيكوتشي نو ميتسوني، و ميبو نو تاداميني؛ بتكليف من الإمبراطور ديجو في سنة 905 ( المرحلة الخامسة في النظام الياباني لحساب العصور ) . وقد احتوت على ألف ومائة واكا، تلك التي اختيرت استثناءً من مختارات مانؤشي التذكارية ( مجموعة من عشرة آلاف ورقة ) . هذه الطريقة في جمع الكوكينشو كانت تعد نموذجاً رائداً لمجموعات الواكا الإمبراطورية اللاحقة .

جوسينشو :
الجوشينشو مجموعة واكا إمبراطورية اكتملت بوساطة أوناكاتومي نو يوريموتو، و ميناموتو نو شيتاجوي، و كياؤهارا نو موتوسوكي، و كي نو توكيفومي، و ساكانوئي نو موشيكي؛ في سنة 951 ( مرحلة تنرياكو الخامس )؛ بتكليف من الإمبراطور موراكامي . وقد بلغت قصائد الواكا التي تضمنتها المجموعة 1425 . وهو ما يعني مجموعة مختارات واكا رائدة، الجوسينشو يشتمل على القصائد المختارة بعد كوكينشو . وهذا في حد ذاته يُحتمل أن يُعالج بوصفه تكملة للكوكينشو .

شويشو:
الشويشو مجموعة واكا إمبراطورية اكتملت في سنة 1005 ( مرحلة كانكو الثانية، احتمالاً ) بأمر الإمبراطور قازان المعروف بقازان – إن ( 984 – 986 في حقبة هيان الوسيطة ) . ولم تكن أسماء المجموعات معروفة . وقد تضمنت 1351 قصيدة واكا . تلك التي جمعت من ذلك النوع ( الواكا )، والتي لم تكن مضمنة في الكوكينشو، أو الجوسينشو، كما أنه أشير إليها باسم " شوي " ( جامعوا الروايات ) .

جوشويشو :
الجوشويشو مجموعة واكا إمبراطورية اكتملت بوساطة فوجيوارا نو ميشيتوشي ( 1047 – 1099 ) في سنة 1086 ( مرحلة أوتوكو الثالثة ) بأمر الإمبراطور شيراكاوا ( 1072 – 1086 ، حقبة هيان الوسيطة ) الذي تنازل عن العرش في العام 1086 ( مرحلة أوتوكو الثالثة ) لكنه بقي على قوته الحقيقية كالإمبراطور السابق . هذا الذي قام بعزل نفسه في الكهانة البوذية عام 1096 ( مرحلة آيتشو الأولى ) واستمر في السيطرة على الحكومة الإمبراطورية للثلاث والأربعين سنة التالية باستخدام نظام إدارة الأباطرة المعزولين السابقين، وقد أسس ذلك بنفسه . هذه المجموعة تحتوي على 1218 قصيدة واكا . سميت " الجوشويشو "، مجموعة المنتخبات القديمة، كانت قصائد الواكا فيها هي تلك التي نظمها الشعراء الذين حذفوا من مجموعة " الشويشو " .

كين – آيوشو :
الكين – آيو شو مجموعة واكا إمبراطورية اكتملت بوساطة ميناموتو نو توشيوري ( 1055 – 1129 ) في 1124 ( مرحلة تينجي الأولى ) بأمر شيراكاوا – إن ( الإمبراطور السابق المعزول شيراكاوا ) وقد تضمنت 665 قصيدة واكا . هذه المجموعة كانت متميزة بشكل كبير عن مجموعات الواكا الإمبراطورية السابقة في إحساس التركيب الشعبي الذي حاول أن يستعيد روح المانيوشو .

شيكاشو :
الشيكاشو مجموعة واكا إمبراطورية أُعدت سنة 1151 ( مرحلة جيمبيئي الأولى ) بوساطة ميناموتو نو توشيؤري بأمر الإمبراطور سوتوكو ألياز سوتوكو إن ( 1123– 1141) وقد تضمنت 415 قصيدة واكا. قُدِّرت بوصفها توأماً لمختارات الواكا حتى كينيوشو، وقد أظهرت عدداً من الشعراء المبتدئين الذين تلوا شويشو.

سينزايشو :
السينزايشو مجموعة واكا إمبراطورية اكتملت سنة 1187 ( مرحلة بونجي الثالثة ) بوساطة فوجيوارا نو شونزي ( شاعر واكا من حقبة هيان المتأخرة : 1124 – 1204 )، بأمر الإمبراطور السابق المعزول جوشيراكاوا – إن . القصائد الـ 1288 المختارة في نطاق المجموعة على نحو واسع في أسلوب التأليف في حقبة شويشو وحتى المعاصرين .

شينكوكينشو :
الشينكوكينشو مجموعة واكا إمبراطورية اكتملت في 1204 ( مرحلة جينكيو الأولى ) بوساطة ميناموتو نو ميشيتومو ( 1171 – 1227 )، و فوجيوارا نو آري آيي، و فوجيوارا نو تيكا ( 1162 – 1241 )، و فوجيوارا نو إيتاكا ( 1158 – 1237 )، و فوجيوارا نو ماساتسوني . هذه المختارات جُمعت بأمر الإمبراطور السابق المخلوع جوتوبا إن؛ الذي تقلد الحكم خلال حقبة كاماكورا المبكرة وتنازل عن العرش سنة 1198 ( مرحلة كينكي الثالثة ) ليكتسب قوة كالإمبراطور السابق المعزول . وتتضمن المجموعة 1978 قصيدة، وتُعرف بإصدار كاماكورا من الكوكينشو .

شينتشوكوسينشو :
الشينتشوسينشو مجموعة واكا إمبراطورية تشتمل على مجموع كلي مكون من عشرين جزءاً، اكتملت سنة 1235 ( مرحلة بنرياكو الثانية ) بوساطة فوجيوارا نو تيكا بأمر من الإمبراطور جو – هوريكاوا ( 1221 – 1232، في حقبة كاماكورا المبكرة ). منذ ذلك الوقت تتضمن المجموعة عدداً كبيراً من قصائد المحاربين العظماء " الساموراي "، وقد كانت تُعرف بالاسم البديل " أوجيجاوا نو تاتاكاي " سنة 1184 ( مرحلة جوي الثالثة ) . في هذه المعركة، المحاربان ساساكي تاكاتسونا، و كاجيوارا يوريتومو ( 1142 – 1199 )، ناضلا من أجل المبادرات الحربية .

أوجورا هياكونين إزشو :
في أقرب العصور المتأخرة، حققت مجموعة " أوجورا هياكونين إزشو، شعبية واسعة مع الجمهور بوصفها " أوتا جاروتا " uta-garuta، وهي لعبة بطاقات يابانية تقليدية . هذه اللعبة تلعب بمجموعتين من البطاقات الصغيرة . الرزمة الواحدة مؤلفة من مائة بطاقة، كل بطاقة بـ 31 مقطعا تعد قصيدة واكا . الرزمة الأخرى من البطاقات تتضمن العدد نفسه من البطاقات لها الأربعة عشر مقطعاً الأخيرة من القصائد نفسها . بطاقات المجموعة الأخيرة تنشر عشوائياً على حصيرة أرضية "tatami". ثم يقرأ أحدهم قصيدة من بطاقات المجموعة الأولى، المتسابقون الذين جلسوا حول البطاقات الموزعة يحاولون التقاط البطاقات المماثلة بشكل أسرع ما أمكنهم ذلك .
أوجورا هياكونين إزشو، تسمى أيضاً هياكونين إزشو، وهي مختارات أدبية مكونة من مائة قصيدة ألفها مائة شاعر، فكل قصيدة من الهياكونين ألفها واحد من مائة شاعر من عهد الإمبراطور تينجي وحتى عهد الإمبراطور جيانتونو. وهي تعني بشكل حرفي " مائة قصيدة ألفها مائة شاعر مختلفين "، تشتمل مائة قصيدة كلها تنتمي إلى فن الواكا الذي يعرف الآن بـ تانكا وهي قصائد مكونة من خمسة أسطر في سياق مكون من واحد وثلاثين مقطعاً، مرتبة بحسب عدد المقاطع في كل سطر من الأسطر الخمسة في القطعة الشعرية، كما يأتي: 7 – 5 – 7 – 5 – 7، وهذا يشبه إلى حد بعيد في صياغته وشعبيته والاهتمام به في الأوساط اليابانية : الموال المصري، كما هو قريب الشبه كذلك من فن الواو الذي يُعدُّ أحد الفنون القولية الشعرية التي يتميز بها المصريون في الصعيد من ذوي الأصول العربية . وتمثل الواكا في مجموعة هياكونين إزشو شعر البلاط الإمبراطوري، فالهياكونين يستعمل تقريباً وعلى نحو خاص هيئة " الواكا " من الأيام المبكرة للشعر الياباني حتى هايكو المقاطع السبعة عشر، الذي اشتهر في القرن السابع عشر . وسوف نوجز الفروق الفنية بين الأنواع الشعرية في الشعر الياباني في الصفحات التالية .
يُعتقد أن جامع ( الهياكونين إزشو ) هو ناقد القرن الثالث عشر الشهير والشاعر المعروف فوجيوارا نو سادائي ( يعرف أيضاً بـ " تيئكا " )، مع أن ابنه فوجيوارا نو تاميئي ربما كانت له يد في تنقيح المجموعة . تيئيكا أيضاً جمع مختارات أدبية من الواكا سميت هياكونين شوكا ( قصائد رفيعة من عصرنا )، التي أشرك فيها العديد من القصائد نفسها بوصفها هياكونين إزشو .
قصائد الهياكونين إزشو المائة كانت في وضع زمني قاسٍ من سبعة أجزاء خلال القرون الثلاثة عشر . وقد تمثلت في اختياراتها الشعراءَ الأكثر شهرة خلال حقبة هيان المتأخرة في اليابان .
لقد امتلكت مجموعة الهياكونين إزشو تأثيراً كبيراً في اليابان . بحسب عبارة دونالد كين، فالقصائد " تشكل النسق المعرفي الرئيس للشعر الياباني لدى معظم الناس من حقبة توكوجاوا المبكرة حتى عصور متأخرة جداً...؛ هذا يعني، في إحساس حقيقي، أن تيئيكا كان مُتَحَكِّماً في الأذواق الشعرية لمعظم اليابانيين حتى حقب متأخرة كالقرن العشرين ". [ بذور في القلب ، ص 674؛ انظر الأسانيد لاستكمال مصدر الاقتباس ] .


ثالثاً
الشعراء اليابانيون الأوائل

تتسم الحياة الأدبية اليابانية بالثراء الشديد منذ أعصرها المبكرة، ومن مظاهر هذا الثراء وجود عدد كبير من الشعراء المجيدين الذين بقيت أعمالهم تصارع تَطَاوُلَ الأزمان، وتعبر حدودَ التواريخ، وتبقي على ذكر أصحابها؛ ومن بين هؤلاء الشعراء الذين ذاع صيتهم وانطلقت بهم شهرتهم إلى سماء التاريخ، عدد بارز من الشعراء، نذكر منهم ما يأتي :

· ماتسوو باشو ( 1644 – 1694 )
شاعر الهايكو في حقبة ( إيدو ) المبكرة، الذي وُلِد في عائلة من النبلاء في ( أوينو )، بولاية " إيجا " حيث خدم يوشيتادا ابن اللورد الإقطاعي المحلي تودو يوشيكيو . وقد عُرِف أيضاً بقصائده من الهايكو المعنونة بـ" سينجين ". لقد أصبح مغرماًً بشعر الهايكو ودراسته في كيوتو تحت إشراف المعلم الكلاسيكي الحصيف وشاعر حقبة إيدو المبكرة كيتامورا كيجين ( 1624 ؟ - 1705 ) .
ماتسوو باشو انتقل بعد ذلك إلى إيدو ( الاسم القديم لطوكيو ) واستقر في دير صغير يسمى باشو آن . في هذا المكان، أسس مع مريديه أسلوبه الخاص في الهايكو، الذي عُرِف بـ" شو فو " ( أسلوب باشو ) .
لقد ذهب شعره إلى ما بعد الأسلوب التقليدي لـ" الدانرين " ( مدرسة للهايكو يرأسها نيسياما سوين الذي أصبح ذائعاً بسبب احتواء القصائد على المضمون الشعبي والمرح السافر ) . لقد نشَّط " الهايكاي " ( الشكل الأصلي لقصيدة " الهايكو " ) وجعل منه فناً أدبياً مصقولاً . مؤكداً على جو الـ " سابي " ( البساطة الرشيقة )، و" الشيوري " ( شعور عميق التعاطف تجاه كل من الطبيعة والإنسانية )، و" الهوسومي " ( التصريح المكبوح )، و" الكارومي " ( نغمة مضيئة )؛ إنه أيضاً يركز رؤيته على أسلوب " اليوجين " ( العمق الروحي لإظهار الجمال الداخلي للفن والطبيعة )، و" الكانجاكو " ( العزلة الهادئة ) .
تراكيبه نادراً ما تتعلق بالأسلوب الكلاسيكي، فمجموعاته تتبنى بشكل نموذجي الـ" مائي كو " ( الشعر الاستشرافي )، و الـ" تسوكي – كو " ( أشعار مترابطة، أو أشعار ذات بعد انتمائي، أو أشعار متضايفة في بنيتها )، تلك الأشعار التي تتشكل من إضافة شعر قصير من سبعة وسبعة مقاطع، إلى شعر طويل من خمسة وسبعة وخمسة مقاطع، أو العكس بالعكس .
هو أيضاً سافر في زيارات يابانية إلى عدد من المناطق . بعد تأليف العديد من قصائد الهايكو والمقطوعات النثرية التي تضمنت صحف الرحلة، مات في نزل بلدي في نانيوا( ولاية أوساكا الآن ).
قصائد الهايكو التي ألفها باشو تتميز بالدرامية الواضحة، والمرح، والحزن، والنشوة، والارتباك التي تمثل ألوانا من طرق مبالغاته . هذه التعبيرات الشاعرة، ذات طبيعة تناقضية . فالمرح واليأس اللذان يُظهرهما ليسا من أدوات حفز الإيمان بالمقدرة الإنسانية، أو تمجيدها . على أية حال، أعمال باشو الكاملة تعلن بشدة وعلى نحو مميز، مدى اعتقاده في الوجود الإنساني الأكثر توسطاً، إنه يصف أعمال الرجال وهذا يشكل إدراكنا بوساطة تأمل عظمة القوة الطبيعية .
أشعاره من الهايكو جُمِعتْ في " هايكاي شيتشيبوشو " ( مختارات مدرسة باشو الأدبية السبعة ). صحف ومفكرات رحلته الرئيسة هي " نوزاراشي كيكو " ( الرحلة الخشنة )، " ساراشينا كيكو " ( رحلة ساراشينا )،" أوكو نو هوسوميتشي"( الطريق الضيق إلى الشمال العميق )، و" ساجا نيككي " ( يوميات الملحمة ) .

* ريح جبل فيوجي
وضعتها على المروحة .
هنا، تذكار من إيدو .
** إيدو : هو الاسم القديم لطوكيو .

* ينام على صهوة الجواد،
القمر البعيد في حلمي المتواصل،
أبخرة الشاي المحمَّص .

* يزوي الربيع
تصرخ الطيور
عيون الأسماك مملوءة بالدموع

· يوسا بوسون ( 1716 – 1783 )
شاعر الهايكو ورسام حقبة إيدو الوسيطة، الذي وُلِد في سيتّسو ( مدينة أوساكا الآن ) . فبعد أن كان رسَّاماً ممتازاً منذ طفولته، أصبح ناجحاً في مجال " البونجين – جا " ( صور الأدباء، التي كانت تنتج رسوماً أصلية بوساطة الأدباء بوصفها هواية ). هذا النوع أصبح بعد ذلك معروفاً بـ" نانشو – جا " أسلوب تثبيت الألوان بوساطة ناتج مدرستي تلوين المناظر الصينيتين الكبيرتين اللتين كانتا معروفتين في اليابان في حقبة إيدو الوسيطة . في أثناء ذلك، في سن العشرين أقام خارج إيدو ( الاسم القديم لطوكيو )، حيث درس الهايكو على يد " هايانو هاجين " في نيهونباشي .
لقد حثَّ على إحياء " الشو – فو " ( الأسلوب الأصيل، الشكل التقليدي والرشيق لصياغة الهايكو ) وأسس أسلوبه الخاص الذي كرَّس للطبيعة الحسية والرومانسية . على الرغم من أنه كان يُعَدُّ محاكياً لماتسوو باشو، غير أن شعره تأثَّر عن قربٍ بخبرته بوصفه رساماً . هو أيضاً عُرفَ مؤسساً للـ" هاي – جا "، أحد أشكال التصوير الفني الياباني الذي يتضمن رسوماً بالألوان المائية، أو بالأسود والأبيض لإبراز بعض أشعار الهايكو أو التحولات التي صُمِّمت لخلق انطباعات مهذبة من أذواق العامة المثقفة لتلك الحقبة .
أشعار " الهوكّو " التي كتبها بوسون، كانت مختلفة عن مثيلاتها عند باشو، إنهما لا يقدمان فلسفة، ولا يذيعان بإيماءات تأكيدية، ولو أن تعبيره بالكلمات كان منقحاً بشكل يثير الإعجاب في أسلوب لم يسبق له مثيل في الثقافة اليابانية . يُحتمل أن يقول يوسا بوسون إنه هو فقط هذا العبقري الذي صور مشهداً مسالماً يستطيع أن يلهمنا الشعور بذلك الخلود الذي يتسع لما وراء منظر الآفاق . لقد ألف كتباً مثل " شين – هاناتسومي " ( رحيق الزهور الوليدة )، و " تاماموشو " .

* وميض الهواء .
سرب مشرب بالبياض
من حشرات مجهولة .

* احرث الحقل
الغيمة الثابتة
تضمحلّ .

* طائرة ورقية تحوم
فوق المكان في السماء
حيث حلَّقت أمس .

· شيكي ماساؤكا ( 1867 – 1902 )
شاعر هايكو وتانكا وُلِدَ في ماتسياما، حيث عمل بشركة صحيفة " نيبّون "، أي : بلاد اليابان، وعمل مدرساً لصياغة شعر الهايكاي في وقت فراغه . لقد لعب دوراً مركزياً في طليعة أسلوب الهايكو الجديد، مستنداً على " شاسيئي "، أو مسودات من الحياة . هذا هو إنجازه خلال عضوية مجلة شعر الهايكو المتخصصة " هوتوتوجيسو " ( طائر الوقواق ) تلك التي أُسِّسَت بوساطته . لقد نشر كتاب " أوتايومي – ني – أتاؤرو – شو " ( كتاب وضع عن ملحني القصائد ) من أجل هدف تجديد " التانكا " والشعر الياباني، الذي كان سابقاً يستعمل في تأليفه الأسلوب والخصائص الصينيَّة . كانت له خبرة أيضاً في كتابة الروايات . هو وأتباعه قد عرفوا بوصفهم " المدرسة اليابانية " في اصطلاحات " الهايكو "، و" مدرسة نيجيشي " في اصطلاحات " التانكا " .
ماساؤكا شيكي بزغ نجمه في عالم الهايكو بوصفه ناقداً لماتسو باشو . لقد انتقد قصائد الهايكو الشهيرة التي كتبها باشو في مقالته " باشو زاتسودان " ( مناقشات حول باشو ). على الرغم من أنه لم يرفض كل أعمال باشو، لقد انتقد قصائده من الهايكو لافتقارها للصفاء الشاعري ولاحتوائها على الكثير جداً من العناصر الوصفية والنثرية المملة. من ناحية أخرى، مدح يوسا – نو – بوسون الذي لم يكن مقدَّراً على نحو واسع حينئذ. فقد شجَّع ذلك هايكو بوسون المشذَّب تقنياً في فنية عالية والذي نجح بشكل فعَّال في توصيل انطباعات واضحة إلى قرائها. وبعد اكتشاف الفلسفة الغربية، شيكي اقتنع بأن الأوصاف الموجزة للأشياء كانت فعَّالة في التعبير الأدبي والتصويري. لقد أصر شيكي على أهمية " شاسيئي " ( المسودة المؤقتة ) هذه الفكرة جعلت قصائده من الهايكو، أكثر حيوية وإيجاز في الأسلوب. فابتكارات ماساؤكا في الهايكو أحدثت إحساساً عظيماً عبر اليابان وساعدت في تنشيط نوع الهايكو بعد ضعفه .

* المطر الفاتر
يداعب
الشوكة العارية .

* في دفء البركة الخارجية
يتحرك سمك الروبيان
بين الطحالب العجوز .

* يُدوِّي المدفع
لدرجة تبرعم ورق النبات
في الأشجار الطويلة .

· روكاسين : الستة الشعراء ( نظرة عامة حول روكاسين )
" روكاسين " هم ستة من أقدر شعراء الواكا في حقبة هيان المبكرة ( 792 – 1192 )، الذين كان كينو تسورايوكي قد أشار إليهم في الكانا ( = هيرا كانا ) استهلاله لمجموعة الكوكينشو، كتلك " المشهورة على نطاق واسع في الأزمنة الحديثة ". يقول بدقة؛ إنهما كانا شخصان وحسب كاكينوموتو نو هيتومارو، و يامابي نو أكاهيتو، هما اللذان استحقا أن يتوجهما الشعر في مقدمات ( كانجي ) للكانا والمانا ضمن مجموعة كوكينشو. لأنه غير صحيح أن كينو تسورايوكي نفسه شرَّف الشعراء الستة بوصفهم شعراء بلاط مقدَّرين. فقد كان ذلك متأخراً عن تلك الكنية " روكَّاسين " ( شعراء الواكا الستة المقدرين لدى البلاط الإمبراطوري ) فقد كانت آنذاك مستعملة. فمتى بالضبط كانت " الأزمنة الحديثة " التي أشار إليها كينو تسورايوكي؟ دراسات المدونات التاريخية الأخيرة لهؤلاء الشعراء الستة ترشح أن هذه " الأزمنة الحديثة " ربما تكون عصر الإمبراطور يوزي أو الأسبق منه ( 876 – 884، في حقبة هيان المبكرة ) .
كينو تسورايوكو لم يعد بالضرورة هؤلاء الستة كأنهم شعراء بارزون حتماً من الأعصر السابقة وحتى عصر يوزي. في حين يلتقط نماذج " الذين يملكون معرفة شعرية عميقة، ولديهم القدرة على تأليف قصائد بأنفسهم "، فكينو تسورايوكي أعلن أنه أهمل أولئك الذين كانوا في درجة عالية لكي يختار عمل مثل هؤلاء الناس المميزين ؛ فقد كان شائعاً جداً أن تلك المهمة ليس من المحتمل أن تؤخذ بجدية. فهو بعدئذ سمى هؤلاء الأشخاص الستة بوصفهم المختارين من بين الشعراء الذين لم يتمتعوا بمثل هذه الامتيازات .
والحقيقة أن هناك عدد من الشعراء البارزين بين نبلاء البلاط الإمبراطوري خلال وقبل عصر يوزي. ومع ذلك امتنع تسورايوكي عن الإشارة إلى هؤلاء الشعراء من ذوي الدرجة الرفيعة. وبدلاً منهم اختار ستة موظفين وقساوسة برتبة أدنى من خارج طبقة النبلاء الذين أصبحوا بعد ذلك معروفين على نطاق واسع مثل الشعراء الستة المميزين. فإن بي نوبليس كان يُعرف بوصفه خادماً للملك أو أعلى من الرتبة الثالثة، أو له منزلة المستشارين.

· سوجو هينجو = رئيس أساقفة هينجو ( 816 – 890 ، مرحلة كوجين السابعة – مرحلة كانبي الثانية ) .
كاهن وشاعر من حقبة هيان المبكرة . حفيد الإمبراطور كانؤمو . راهب سوزيئي ( واحد من شعراء البلاط الستة والثلاثين المميزين ) أنجب ابنه قبل أن يصبح قسيساً بوذياً . وقد فضله الإمبراطور جينمي كثيراً جداً عندما انزوى بعيداً سنة 850 ( مرحلة كاشو الثالثة )، لقد أدى واجباته بوصفه قائداً للمراسم، يترأس الزينة والإعداد للجنائز الملكية. وفوراً فيما بعد عندما كان في سن السابعة والثلاثين من العمر عزل نفسه ليصبح قسيساً لطائفة " التينداي ". فأخذ درجة رئيس الأساقفة ( أعلى مراتب القسيس البوذي ) في أكتوبر 885 ( مرحلة نين نا الأولى ). وفي ديسمبر من العام نفسه، نظم الإمبراطور كوكو احتفالاً له بمناسبة عيد ميلاده السبعين. وقد مات في سن الخامسة والسبعين، سنة 890 ( مرحلة كانبي الثانية ). وهو أيضاً يُعرفُ باسم رئيس الأساقفة المستعار " كازان " ( = تل الزهور ) لأنه أنشأ معبد كازان – جي المعروف بـ" جانجيو – جي " في كيوتو. وهو واحد من شعراء البلاط الستة المقدرين، ومن ستة وثلاثين شاعراً مميزين في التاريخ الأدبي الياباني بعامة .
هؤلاء الراقصون يجب أن يكونوا ملائكة .
دعهم كذلك .
رئيس أساقفة هينجو

· آريوارا نو ناريهيرا ( 825– 880، مرحلة تينتشو الثانية– مرحلة جانجيو الرابعة ):
شاعر من حقبة هيان المبكرة، حفيد الإمبراطور هيزي والطفل الخامس للأمير آبو، وهو واحد من الشعراء الستة المميزين وأحد ستة وثلاثين شاعراً مقدرين في التاريخ الياباني. ابناه وأحفاده كانوا شعراء واكا أيضاً من أولئك الذين اختيرت قصائدهم لتُضمَّن في مجموعة " تشوكوسينشو ". على الرغم من تلك الحقيقة التي تقول إن عشيرة فوجيوارا أصبحت أكثر فأكثر ذات تأثير على بلاط الإمبراطورية؛ آريوارا نو ناريهيرا كان رائداً مستقلاً وعاش حياته حراً، تقريباً كما لو أنه كان متمرداً ضد سيطرة فوجيوارا. مشغولاً ببطل القصة الشعبية " إيزي مونوجاتاري " ( حكايات إيزي ) وأصبح شعبياً كشخصية أسطورية لها سحر رائع ونظرات جيدة وسلوك نابض بالحياة، فيها العديد من القضايا العاطفية مع السيدات الجميلات، وقد فتقت لديه موهبة رائعة للشعر. حياته في حد ذاتها قد ظهرت في نتاجاته المسرحية في أسلوب " الكابوكي "، و" نوه "، و" جوروري " .
حتى الحكماء
لن يمكنهم أن يروا قرمزية نهر تاتسوتا هكذا،
باقة رائعة مصبوغة بالأوراق .
آريو ناريهيرا .

· فانؤيا نو ياسوهيدي ( سنتا الميلاد والموت مجهولتان ) :
واحد من شعراء البلاط الستة المقربين. سُجِّلَ بوصفه موظفاً بالقصر الإمبراطوري، فقد خدم كلاً من الإمبراطور سييوا و يوزي. قصائده تكشف أن لديه شيئاً من الارتباط مع الإمبراطور سييوا ( فوجيوارا نو تاكائيكو ). وقد وُصِفَ في مقدمة " الكانا " للكوكينشو بوصفه " ماهراً في صياغة الكلمات كأنه تاجر ملابس جيد ذا بزة مناسبة " .
أشجار وعشب الخريف يذويان، ذبولاً
ريح الجبل، يدعونها، قوة ضارية مميزة
فانئيا نو ياسوئيهيد

· الراهب كيسين ( سنتا الميلاد والموت مجهولتان ) :
هناك بضعة ملفات في ( سيرته الذاتية ) يستثنى منها حياة الرهبنة على جبل أوجي. كتاب " جينكو شاكوشو " يشير إلى راهب سُمِّي كيسين عاش ودرس البوذية الباطنية على جبل أوجي، وقد أخذ عقاراً سرياً لطول العمر وقد رفع في يوم واحد إلى السماوات. ويُعدُّ مؤلف " كيسين شيكي "، الكتاب الشعري. وهو واحد من شعراء البلاط الستة المقدرين .

· أونو نو كوماتشي ( سنتا الميلاد والموت مجهولتان ) برواية واحدة، جارية شرف للإمبراطور نينميو ( 833 – 850 ) .
بضعة سجلات للسيرة الذاتية . قصائدها، وُجِدَتْ في " الكوكينشو "؛ و" غوسينشو " يظن أنها قد ارتبطت برئيس أساقفة هينجو، و فائيا نو ياسوهيد. كانت هناك مختارات أدبية أسطورية " مجموعة كوماتشي " التي تضم أكثر من مائة قصيدة يُعْتَقَد أنها مؤلفة من قِبَلِها. على أية حال هذه المجموعة هي في الحقيقة تجميع متأخر لتلك المؤلفات العديدة المضمنة في مجموعات صنفها الآخرون. بعض العلماء يصرون على أن القصائد أُلِّفت بوساطة كوماتشي نفسها ليقينهم بأنها فقط الثمانية عشر تلك الموجودة في الكوكينشو، مع أن ذوي الاختصاص الآخرين يضيفون أربع قصائد أكثر من غوسينشو. القصائد التي نسبت إليها ضمنت في المجموعات الإمبراطورية التي جُمعت في تاريخ أكثر تأخراً من كوكينشو و غوسينشو، كانت كلها مُعَدَّة لأن تكون واحدة من تلك التي تبنتها مجموعة الكوماتشي، لذلك فإنه مشكوك فيما إذا كانت قد ألِّفت حقاً بوساطتها. وقد كانت واحدةً من شعراء البلاط الستة، وشعراء اليابان الستة والثلاثين المميزين .
شاحبة أزهار الكرز بعد مطر طويل، جمال عقيم :
بدونك أعيش في عالم خال من اللون .
أون نو كوماتشي

· أوتومو نو كورونوشي ( سنتا الميلاد والموت مجهولتان ) :
من المحتمل أنه عمل موظفاً بالقصر في حقبة جوجان. كما تدل عدة سجلات سيرة ذاتية. وهو واحد من شعراء البلاط الستة المقدرين. قصائده تطرح تأثيراً قوياً من قرب عهده بأراضي أومي و شيجا. وبحسب " الموميوشو " مقالات رصينة حول التأليف الشعري بوساطة كامو نو تشومي، كورونوشي ارتقى إلى الحالة الربانية، وكان له ضريح بوصفه وليّ الله " ميوجين " في إقليم شيجا – أومي. في رواية واحدة، هو الشخص نفسه مثل أوتومو نو سوجوري كورونوشي الذي ذُكِرَ في النشرة التنفيذية لسنة 866 ( مرحلة جوجان الثامنة ) . أوتومو نو سوجوري كانت عشيرة مستقرة في قرية أوتومو في إقليم شيجا من مقاطعة أومي .

· أسانيد وإحالات :

(1) ياسودا، كينيث : واحدة بعد أخرى تتفتح أزهار البرقوق .. دراسة في جماليات قصيدة الهايكو اليابانية ، ترجمة وتقديم محمد الأسعد ، مراجعة د. زبيدة علي أشكناني ، إبداعات عالمية 316، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب ، الكويت فبراير 1999م.
(2) الكاتب، علاء الدين رمضان: مائة أغنية وحيدة، دار كتب عربية للنشر الإلكتروني، القاهرة 2004م . و انظر مقدمته في: اثنتا عشرة قصيدة يابانية، مجلة الشعر العدد 109، اتحاد الإذاعة والتليفزيون، القاهرة يناير 2003م. و: انظر للكاتب نفسه؛ أوجورا هياكونين إيزشو.. مائة أغنية لمائة شاعر، ترجمة وتقديم، مجلة نزوى، العدد 44، اكتوبر 2005، ص191– 200 .

(3) Carter, Steven. Traditional Japanese Poetry: An Anthology. Stanford: Stanford University Press, 1991.
(4) Galt, Tom. The Little Treasury of One Hundred People, One Poem Each. Princeton: Princeton University Press, 1982.
(5) Honda, H. H. One Hundred Poems from One Hundred Poets. Tokyo : Hokuseido Press, 1957.
(6) Keene, Donald. Anthology of Japanese Literature. New York : Grove Press, 1955.
(7) Keene, Donald. Seeds in the Heart ( A monumental history of Japanese literature to the late 16th century). New York : Henry Holt, 1993.
(8) MacCauley, Clay. Hyakunin-Isshu (Single Songs of a Hundred Poets) and Nori no Hatsue-Ne (The Dominant Note of the Law). Yokohama : Kelly and Walsh, 1917.
(9) Morse, Peter. Hokusai: One Hundred Poets. New York : Braziller, 1989.
(10) Porter, William N. A Hundred Verses from Old Japan . Rutland , Vermont : Charles Tuttle, 1979.
(11) Rexroth, Kenneth. One Hundred Poems from the Japanese. New York : New Directions, 1956. And One Hundred More Poems from the Japanese. New York : New Directions, 1976. Together include about two-thirds of the Hyakunin poems, in Romaji and English translations of poetic sensitivity.
(12) Sharman, Grant. A Japanese Anthology. Los Angeles : Monograph Committee, 1965.

الكاتب
علاء الدين رمضان السيد
شاعر وناقد مصري، يقيم في ساحل مدينة طهطا بسوهاج، مصر. * عضو اتحاد كتاب مصر؛ وعضو أمانة بعض المؤتمرات الأدبية المصرية . * ولد في ساحل مدينة طهطا، يوم الاثنين 5 من ذي القعدة عام 1389هـ ، الموافق 12 من يناير عام 1970م . * رأس مجلس إدارة نادي طهطا الأدبي ـ ومجلس إدارة مجلة الطهطاوي وأشرف إشرافاً عاماً على تحرير المجلة ومطبوعات النادي. ( منذ عام : 1996م، وحتى العام 2001 ). ثم أعيد انتخابه رئيساً لنادي طهطا الأدبي العام 2007م . وأصدر ورأس تحرير مجلة صهيل القصائد ( مجلة الشعرية العربية؛ متوقفة عن الصدور الآن ). ** صدرت له عدة أعمال شعراً ونقداً وغيرهما، من ذلك :
* المتواليات ( هيئة الكتاب ، القاهرة : 1993 ) .
* الخطو على مدارج المدينة ( اتحاد الكتاب العرب ، دمشق : 1993 ) .
* غابة الدندنة ( وزارة الثقافة ، القاهرة : 1995 ) .
* ظواهر فنية في لغة الشعر العربي المعاصر ( ط 1 - اتحاد الكتاب العرب ، دمشق : 1996 ) ؛ ( ط 2 – الهيئة العامة لقصور الثقافة ، طهطا : 2000 ).
* سمكة ظامئة .. مسرحيتان،( هيئة الكتاب ، القاهرة : 2003 ) .
** ومن أعماله المخطوطة :
* أثر البيئة والمتغيرات الاجتماعية في أدب يحيى حقي ( أطروحة ماجستير).
* اللغة في الشعر العربي الحديث دلالاتها وفنياتها ( أطروحة دكتوراه ).
** له عدد من الأنشطة ذات العلاقة بخدمات النشر الإلكتروني من خلال موقعه الرئيس (غابة الدندنة)، وما يتضمنه من مواقع فرعية، من أهمها: ( صهيل القصائد )، و( غابة المعارض )،.. وغيرهما.
* البريد الورقي :
1 شارع مرسي بالجيارين – ساحل طهطا 82623 – سوهاج – مصر
* البريد الإلكتروني ( alauddineg@yahoo.com )
* الهاتف ؛ المحمول : ( 0112464652 ).

2007/11/25

مصايب الشيخ مصايب



مصايب الشيخ مصايب


النشر الورقي : مجلة الفنون الشعبية ، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، العددان 74 / 75 ، القاهرة : ابريل - سبتمبر 2007




مصايب الشيخ مصايب
( حكايات مرحة )
جمع وتدوين
علاء الدين رمضان




* المقدمة
خلَّف الشيخ مصايب الجهني عدداً كبيراً من النوادر التي لقيت رواجاً كبيراً وانتشاراً واسعاً ، ولما يزل يتردد صداها بين مختلف طوائف المجتمع في جهينة إلى الآن ، لقد كان الشيخ مصايب يحترف المنادمة والمتابعة لذوي السلطان والرياسة وكبار رجالات الدولة والحكام وإقطاعيي المجتمع ، فذاع صيته واشتهر حتى صار علماً في بيئته وعليها ولها ؛ فما من أحد في جهينة أو القرى المحيطة بها يجهل شخصية الشيخ مصايب ، حتى وإن لم يرو عنه شيئاً ولم يحفظ من نوادره طرفاً ، فكلهم يتمثل لهذا الرجل في وجدانه صورة ذات قسمات خاصة وملامح مميزة وهيئة دالة على ذلك المرح الذائع ، فشهرة الشيخ مصايب الآن في مطلع الألفية الثالثة – بعد مرور ما يربو على قرن من الزمن على حكاياته - ترجع لكونه قد صار شخصية بِيئِيَّة دالة على قوة المجتمع الذي ينتسب إليه وقدرته على المواجهة المعنوية ، كما كان مجتمع جهينة أكثر قدرة على المواجهة المادية ؛ فمن العجيب أن تلك البيئة أنجبت - في عصر واحد - الشيخ الخضيري ( مصايب )، ومصطفى هاشم ( خط الصعيد )؛ الحدة والعنف معاً ، حدة اللين وعنف القسوة ، لذلك فإن الشيخ مصايب شخصية بيئية رأت فيها جهينة مُتَمِّماً لصورة القوة لديها ؛ فقد رأت جهينة أنها بيئة متفوقة سادت بالقسوة واللين ؛ فمصطفى هاشم أخضع أموال ورقاب الإقطاعيين، وكذلك هزأ الخضيري مصايب منهم وسخر، ونال منهم بالفعل والقول، وظلوا بحاجة إليه يدافع عنهم ويدفع ما لا سبيل إلى دفعه إلا باللسان لا السطوة والسلطان .
ونقف من خلال تلك الحكايات على مظاهر الحياة الخاصة للصفوة ، ومنهج فكرهم وأسلوب حياتهم ، إذ تعرض عدداً من سمات المجتمع الذي نشأت فيه وكان ساحة لصولاتها وجولاتها ؛ وتُعد حكايات الشيخ مصايب الجهني وجهاً من تلك الأوجه المميزة ؛ من الحكاية الشفهية، تلك الحكايات التي من بينها حكايات عاشت عبر الأجيال وسافرت عبر القارات مع اختلافات قَلَّت أو كَثُـرت؛ للحد الذي صرنا معه نمتلك لقصة واحدة من قصص ذلك التراث مثل سندريلا Cinderella ما يربو على خمسمائة إصدار ؛ من رادوبيس في مصر القديمة وحتى أشبوتيل Ashputel الروسية ؛ فهناك عدد كبير من الحكايات الشفاهية تم تدوينها ، وهناك عدد أكبـر من الحكايات التي ظلت متناقلة دون تسجيل ، ومنها حكايات سقطت من الذاكرة ولم يعد يذكرها أحد ؛ من هنا تأتي أهمية الجمع الميداني والتدوين في حقل التراث الشفاهي
.
وأشير هنا إلى أنني تصرفت في تدوين النص الأصلي في ضوء ما جمعته من روايات متعددة للحكاية الواحدة، وما تسمح به الدراسات الفولكلورية في هذا الباب ، في سياق أساليب التدوين اللهجي المتعارف عليها . كما حرصت في عمليات الجمع الميداني على اختيار دليل من أهل جهينة واستفتحت الحديث بيننا بالسؤال عن مصايب وعائلته ومن بقي منهم على قيد الحياة، حتى وصلت إلى ابن الشيخ مصايب ويدعى الحاج محمد عبد الرزاق الخضيري، وفي عمليات الجمع عنيت بتغيير الدليل في كل مرحلة وعدم السماح له بالتدخل في سير عمليات التسجيل التي نتج عنها هذه النسخة المدونة من حكايات الشيخ مصايب الجهني .

· الرواة :
أهل جهينة وعنيبس والطليحات والنـزات السبع وبعض أهل طهطا وبلصفورة وجرجا، وبعض أهل القاهرة ممن لهم جذور جُهَيْنِيَّة، ولكن مع الأسف الشديد انقرض الرواة الأصليون وضاع الصوت الرئيس الحامل لروايات ونوادر الشيخ مصايب وما بقي منه إلا الصدى، ولذلك نجد أن حكايات ونوادر هي الشائعة بينما غيرها ليس من اليسير العثور عليه إلا بعد لأي أو مصادفة، وعدد كبير من تلك الروايات استحال تسجيلها إلا بالحيلة والتعمُّل .

** وأذكر من الرواة الذين اعتمد عليهم البحث :

وقد تنوعت أماكن الجمع الميداني ، وذلك في مرحلتين رئيستين عني بهما الباحث ؛ أولاهما مرحلة الجمع والتعقب العشوائي للشيخ مصايب الجهني وأخباره ، وأخراهما مرحلة الجمع الموجه ؛ ففي مرحلة الجمع العشوائي استقى الباحث عدداً من المعارف والأخبار والنوادر التي كانت قاعدة أولية لسير البحث ومسيرته ، في تلك المرحلة اتسع النطاق الجغرافي ليشمل: حدائق حلوان والمعادي والقلعة ( القاهرة: يونية 2003 )؛ ثم بني غازي ومصراته ( ليبيا : يوليو 2003 )؛ ثم ساحل طهطا، سوهاج، جرجا ( سوهاج: أغسطس 2003 )؛ أما المرحلة الأخرى فهي المرحلة الموجهة، وقد حصر الباحث جمعه في تلك المرحلة على أماكن بعينها، هي: جهينة، والطليحات،وطهطا في محافظة سوهاج بصعيد مصر، وهي مرحلة التسجيل والتحليل.

** جدول أماكن الجمع :


* الراوي الرئيس :
الحاج محمد عبد الرزاق الخضيري محمد أحمد غزالي ( 73 سنة ) ، يعمل وكيلاً للمحامي خلف علي أبو درب في جهينة الغربية ، واسمه ( محمد عبد الرزاق ) اسم مركب ، وهو الابن الأكبر للشيخ الخضيري مصايب ، وقد حضر الراوي خمسة أجيال : جده عم جده ، وجده والد أبيه ، وجيل أبيه ، وجيله ، ثم جيل أبنائه . عمل محمد عبد الرزاق في قسم الحفر والزنكوغراف بجريدة المصري ، وقد كان مشغولاً بعمله عن متابعة رحلات والده ومشاركته مجالسه ومنتدياته وحفلاته ، لكنه كان أحياناً يحضر حفلة أم كلثوم في الأزبكية بسبب شهرة والده هناك ، وقد حضر مثلاً أغنية "ولد الهدى" وغيرها . وقد كان الراوي دقيقاً متعاوناً فيما يتعلق بحياة والده، لكنه آثر الحياد فيما يخص حكاياته وادعى أن الناس تجيدها أكثر منه، وأن الجيل الذي كان يحفظها قد انقرض ،أي جيل إذا لم يكن الجيل الناقل الحافظ هو جيله نفسه؟. لكن يبدو لي أن لديه موانع شرعية وأيديولوجية تمنعه عن الخوض في ذلك لأن في الروايات عدد كبير من الحكايات قد يُصرف إلى معانٍ تنافي الجدة والخلق الرفيع.

الرصد الميداني
من حكايات
الخضيري مصايب

(1)
أنطح
** الراوي : طارق القاضي ( 31 سنة ) طهطا

* قاعـد على الجسـر في جهينه والعمده الحويج معـدِّي . فالعمده رمى عليه السلام . في رميته السلام رفـع العمده راسه من تحت لفوق . فراح الشيخ مصايب هـز راسه ناحية اكتافه يمين وشمال . وراح العمده ورجع . لما رجع لقيه لسه قاعد مكانه . ع يقول له العمده إيه : أنا ع أرمي عليك السلام يا مصايب وانت ما اتردش عليَّ ؟ قال له أنا ما رديتش ؟ . دا إنت أصلاً مرميتش السـلام . إنت ع تسألني أنطح ؟ قلت لك لا .. متنطحشي .

(2)
التكاية هيّ الفرق
** الراوي : جمال فهمي سالم عبود ( 45 سنة ) الطليحات .

* مصايب ليه نوادر كتيره جداً . ومن ضمن : كان يجتمع مع واحد من البحيره . مره كان الشيخ مصايب قاعد مع البحراوي على دكة وبينهم تِكَّاية ، فحب البحراوي يجر نهاش مصايب . حب يغلبوا فـ ع يقول له . ويسأله : يا شيخ مصايب تقدر تقول لي إيه الفرق ما بينك وما بين الحمار . قال له التكاية دي . فقصد الراجل البحيري . فقال له خلاص آمنت بإنك غلبتني .

(3)
[ تلعب ] في الحيطه : تنور
** الراوي : حسام عبد المقصود ( 28 سنة ) الطليحات

* نزل فندق في مصر وكانت المرَّة الأولى اللي يتعامل فيها مع الكهرباء أضاء له خادم الفندق الغرفة ، وعندما أتى الليل أراد أن يطفئ نور المصباح لينام فأخذ ينفخ فيه مراراً والمصباح لا ينطفئ، فاستنجد بالخادم فعلمه الخادم كيف يطفئ وكيف ينير، فلما عاد إلى جهينة سألوه عن أعجب ما رأى في مصر، قال مصايب :"[ تلعب في ] الحيطه تنور ، [ تلعب في ] الحيطه تطفي " .
هـوه ما قلش كده؛ قال بدل كلمة ( تلعب ) دي لفظ خارج زي اللي في نكتـة (انظر : حكاية تحية الملك ، النسخة المطبوعة ) .

(4)
جهينة فين
** الراوي : حسام عبد المقصود ( 28 سنة ) الطليحات .

في مجلس من المجالس اللي كان بِيْـرُوحها الشيخ مصايب ، كان في الجيزة ، وفي القعدة واحد من الحاضرين سأله ، يعني بيهزأ منه ، عايز يضحك عليه ، قال له : " انت منين يا شيخ مصايب ؟ " قصده يِتَّـرْيَقْ على اللي واكل الجو من حواليه ده ؛ قال له مصايب : " أنا من جهينة " ، قوم الراجل سأله : " وفين دي من جنينة الحيوانات " ، قال له مصايب : من بعد الجيزة ومقبل . بره السور " . فاتغير لون الراجل وذهل كده من الرد ، لكن بان عليه الزعل قوي لما ناس من القاعدين فهمتها وضحكوا . العبارة في إن مصايب كان يقصد إن من الجيزة وجوه همه جنينة الحيوانات واللي بره همه اللي مش حيوانات . البحراوي كان عايز يوقعوا راح هوه الشيخ مصايب اللي وقعه في شر أعماله .

(5)
( كلثوميات )
** الراوي : الخضيري محمد غزالي ( 35 سنة ) جهينة الغربية .

أما بالنسبة لأم كلثوم . فليه نوادر ياما معاها .كانت تبعت له تذكرة كل حفلة تعملها . كانت بتعمل كل شهر هيه حفلة . فقعـدت شهرين تلاته نسيت مصايب . ما بعتتلوش . فقال دي ما بعتتليش ليه . المهم عملت حفلة فدفع التذكرة ودخل زي الجماهير العاديين . بس مرضيش يبص عليها . هوه مضايق منها طبعاً . فقال يا اخويا طب أعمل إيه . المهم راح مولع في حتة خلقه – قماشة قديمة . عملت شياط . زمان القماش كان لما اتولع فيه يعمل ريحة كده . فالجماهير اللي ع تبص على ام كلثوم سابوها وقعدوا يبصوا في هدومهم وبتاع. فراح رفع الخلقه المولعة وقال إيه يا نـاس دي هيه حتة شرموطه خلتكم تعملوا كده .

(6)
حمارتك راحت
** الراوي : الخضيري محمد غزالي ( 35 سنة ) جهينة الغربية .

في جنازة . كان واحد ميت . كان العمده حسين الحويج قاعد قام واحد نعس شخر . قام مصايب طلع من بره وقعد يلف . عمل نفسه ع يبص بره اكده . راح راجع وقال ياللي شخرت حمارتك راحت و ع اندوروا عليها . قام الراجل قال : يوه دا أنا شاحتها . قال له : اقعد خلاص اللي ع اندوروا عليه القيناه .
وتروى هذه النادرة كذلك بصور مختلفة ؛ وكل صورها تتعلق بالفعلة التي أتاها الرجل الضيف ، فبعض الروايات تقول : إن رجلاً ضحك في العزاء .

(7)
حوشوا الكلب
** الراوي : جمال فهمي سالم عبود ( 45 سنة ) الطليحات .

مره كان ماشي ورايح عند جماعة فـ لا مؤاخذه الكلاب هوهوت عليهم فـ ع يقول لهم : حوشوا يا ولاد الكلب . من غير ما يقصد الشتومة ولا حاجة قصده شريف . بيقولهم يعني حوشو الكلب .
وهناك رواية أكثر تحديداً : قيل إن الشيخ مصايب دخل بيت العمدة أحمد سالم في الطليحات فزمجر الكلب في وجهه في الوقت الذي خرج فيه نفر من أولاد العمدة لاستقباله ؛ فإذا به يقول : " حوشوا – ياولاد – الكلب " . فما كان من العمدة الجالس بالداخل إلا أن انفجر ضاحكاً .

(8)
دي الوالدة
** الراوي : عم عوض ( 75 سنة ) جهينة الغربية .

واحد من الباشوات بتوع زمان قل له إن جبت فيَّ نكته أديك ما اعرفش إيه . قل له طيب . ماشي . إلاَّ وجات - الباشا معاه – كلبه والده . دخلت عنده وعيالها وراها . قال له هيه دي الوالده يا باشا . قال له الباشا : إيوه هيّ دي . قال له : طيعوهم ولو كانوا كفار .

(9)
زرع الكبايات
** الراوي : عم عوض ( 75 سنة ) جهينة الغربية .

كان بيتحامق على واحد . قال له : الكبايات عندنا ع تتزرع . قال : ع تتزرع إزاي !؟ .قال له : عندنا ع نزرعوها . قال له طب الكبابي اللي محزوزة في النص دي تعملوا فيها إيه ؟ . قال له نعطشوها في التالته . يعني نزقوها مرتين تلاته ونيجي في الرابعة ما نزقوهاش فتروح تعمل حز في النص .

(10)
سمك قديم
** الراوي : حسام عبد المقصود ( 28 سنة ) الطليحات

* مرة كان في اسكندرية. في مطعم وبتاع المطعم جاب له سمك. جايب السمكة بارده وناشفة. يمسك السمكة ويجي حاططها جنب ودنه وينزلها على الطبق وييجي ساكت . يمسك السمكة تاني ويحطها جنب ودنه ويجي منزلها على الطبق وييجي ساكت. جه بتاع المطعم قال له ع تعمل إيه يا عم الشيخ. قال له: أنا معايا ولد عمي غرقان ليه تلات تيام وع أسألها عليه قالت لي أنا لي هنا هوه أسبوع في المطعم .

(11)
العتب ع السمع
** الراوي : حسام عبد المقصود ( 28 سنة ) الطليحات .

* كان الشيخ مصايب في أحد المجالس بالقاهرة ، فسأل رجلاً لم يعجبه حديثه ولا هيئته : من أي البلاد أنت ؟ فقال : من طنطا ، فردد الشيخ مصايب مستوثقاً : من طهطا ؟ . قال الرجل : لا ، من طنطا - شيء لله يا سيد يا بدوي - فقال مصايب : معلهش ، العتب ع السمع ، وإنا إن شاء الله لمهتدون ؛ وصمت .

هذه الحكاية تروى على أنها من أخباره في سياق طرفة أخرى الرجل فيها من المنصورة سمعها مصايب بهجورة ( وبهجورة من أعمال قنا )، ويروى فيها رد مصايب: " معلهش يا بني العتب ع السمع ربنا يهدينا " وتستأنف الحكاية مسيرتها بقوله " أهل المنصورة كلهم ولاد أسود ". ولم يوردها بصيغتها الأولى " وإنا إن شاء الله لمهتدون " إلا رجل كبير السن من أهل القلعة بالقاهرة، وقال أنه يقصد قول الله تعالى : " إن البقر تشابه علينا وإنا إن شاء الله لمهتدون " ، ثم رواها كذلك حسام عبد المقصود ، ويعضد رواية النادرة بهذه الصيغة : الصيغة الأخرى لها إذ أنها كذلك لا تخلو من إسقاط لكنه بذيء وسيء ومهين إذ أن أنثى الأسد هي اللبوءة ولفظة اللبؤة خففتها اللهجة المصرية واستخدمتها استخداماً مهينا للدلالة على المرأة المنحرفة ، وقد رويت حكاية أخرى (الحكاية 68 = ولاد ديابه وولاد أسود ) استخدم فيها مصايب الجزء البذيء من هذه الحكاية وجعل منه مفارقة بنى عليها حكاية وقعت بينه وبين أحد القاهريين في محاجة القاهري يدعي أن أهل الصعيد مجرمون والشيخ مصايب يدعي أن أهل القاهرة تستشري فيهم البلطجة .

(12)
عينوني ديك
** الراوي : حسام عبد المقصود ( 28 سنة ) الطليحات

* في آخر حياته اتعين في الحكومة اشتغل مؤذن في جامع سيدي العيني . فواحد بيسأله : اتعينت إيه يا شيخ مصايب . قال له عينوني ديك أقول كيك .

(13)
قصر في الجنة
** الراوي : حسام عبد المقصود ( 28 سنة ) الطليحات .

* أهداه الباشا الشندويلي قفطاناً دون جبة أو عمامة على جمع من الناس فدعا له بصوت جهوري ، قال : أعطاك الله قصراً في الجنة دون سقف أو سور وجعل الشمس فوقه وحواليه ؛ فضحك الشندويلي وأمر له بعمامة وقفطان .

(14)
( كلثوميات )
** الراوي : الحاج محمد عبد الرزاق الخضيري ( 73 سنة ) جهينة الغربية .

في حكاية له مع أم كلثوم في طحطا ( اللفظ اللهجي لاسم مدينة طهطا ). هنا هُهْ أقول لكم عليها برضه . بس دي اسمعتها : أم كلثوم في بدايتها كانت تروح البلاد والمحافظات تعمل حفلات ، أيام م كانت بتلبس لامؤاخذه العقال والبالطو ، ومن ضمن كانت في طحطا قهوة اسمها قهوة أبو غزالة ، كانت على مستوى زمان ، دِلْوَكْ قاعدة بس ما ... ؛ جنب المركز من غربه . كانت زمان أيام القطن أما كان في عز عهده ، كانت التجار والناس والمشايخ والعمد يروحوا يقعدوا عليها . راح أبو غزالة جاب أم كلثوم . وفيه نادي شرق المركز عملوا الليلة فيه ، جنب مركز طحطا بالظبط بين جامع عبد العال والمركز . بيت رئيس المدينة دلوك . مأمور المركز دعا المشايخ والعمد في البلاد كلها وطلعوا إعانات ، التذكرة بخمسين قرش وكانت الخمسين قرش حكاية ، فالمشايخ كانوا يلموا من كل بيت تعريفة ويروحوا يدفعوا التذاكر .
المهم : لَمَّا راحت المشايخ والعمد كلها لابسة عمم وطربوش ، قوم العمة عاملة زي لوزة القطن ، فلما طلعت هيَّ على التخت ، على المنصة بتاعت المسرح ورايحة تغني ، بصت لقيت العمم كلها بيضة ، قوم قالت : " القطن فتش " ، قام هوّه الشيخ مصايب قالها :" ربنا يكفيه شر الدودة ". دي النكتة اللي عرّفت مصايب بأم كلثوم .

(15)
الكاكوله
** الراوي : الخضيري محمد غزالي ( 35 سنة ) جهينة الغربية .

* عطاه الباشا الشندويلي جبة ففرشها على الطرابيزة قدامه وكتب على ظهرها أشهد أن لا إله إلا الله ، فقالوا له : ليه ما كملتش التشهد ؟ قال : أصلى الجِبَّة دي من قبل البعثة .

(16)
كل واحد جمعة
** الراوي : الحاج محمد عبد الرزاق الخضيري ( 73 سنة ) جهينة الغربية.

أنا حضرته مره واحده والمره دي كانت في دوار الدقايشه في نزة الدقيشية . كان المرحوم قبيصي مرسي جايب الشيخ محمود صارو من طحطا والشيخ صديق المنشاوي . وعاملين ليله بتاعت ليلة مولد النبي . ف من ضمن في أثناء الحفلة الشيخ صديق قرا أول عُشْر : " الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة " . قرا يعني في سورة النور وصدق . في أثناء ما صدق الشيخ صديق قام واحد من عنيبس اسمه جمعه ، خد بالك من الاسم كان اسمه جمعه . كان زميل الشيخ خضيري مصايب في الأزهر ونُكَتي زَيُّه . قام جمعه ده قال يا جماعة . اسمعوا . فيه واحد اسمه الشيخ خضيري مصايب من جهينة . مراته ماتت . قام راح قعد يملطش ويبكي تحت رجليها جات الناس : يا راجل دا انت راجل طيب وحافظ كلام ربنا . ومش عارف إيه وبتاع . قام واحد زهق منه قال له طب الميت ع يعيطوا .. . يعني لمؤاخذه هوه جه تحت رجليها واخد بالك و ع يعيط هوه . قالوا طب الميت ع يعيطوا فوق راسه مش تحت رجليه . قال له أنا ع اعيط على النص اللي كان نافعني .

الغرض السامر كله قعد يضحك . وكانت نكته خدت رجه يعني . قام واحد اسمه عبد الرحيم البيه من نزه . قال له : آه .. أهه جمعه .. أهو من عنيبس عاد ده . الغرض قال له روِّق يا شيخ عبد الرحيم . قام مصايب رد قال :
يا اخوانا أيام السلطة خدوا الناس راحت الحرب مع الأتراك والإنجليز وفيه ناس جات وفيه ناس محدش يعرفها راحت فين . ففيه واحد كان متجوز وحده وبعدين اتأخر ما جاش . ولد فلان جه وولد فلان جه وولد فلان جه . وولد فلان ماجاش . وْهُوَّه من ضمن الناس اللي قالوا مجاش . الغرض لما قطعوا الشك إني هُوَّه مش هييجي قام واحد خطب المره بْتَاعْتُه . وهُوَّهْ ع يكتب المأذون طبّْ اللي كان في السلطه . ده قعد يقول مرتي – والمأذون كان كتب – وده قعد يقول مرتي . يبقى مرت مين دلوكتي ؟ ده عنده عقد رسمي وده عنده عقد رسمي . قام القاضي قال : أنا هـ أحكم لكم عاد . قال : انت ع تقول مرتي وهوه ع يقول مرتي . قال : كل واحد منكم ( يعاشر ) جمعه .

(17)
الكلاب
** الراوي : خالد أبو النور قطبي ( 35 سنة ) جهينة الغربية .

* حاول راجل من أهل المنيا في مجلس ببيت العمده عمر عبد الآخر في طهطا أن ينال من الشيخ مصايب ، فقال له : رحنا لبيت العمدة ( حسين الحويج ) في جهينة ، فاستقبلتنا الكلاب من أول البلد لغاية دوار العمدة . فقال الشيخ مصايب : لا .. كلاب إيه انت جيت في النهار والكلاب مقيلة ، أما لو جيتها في الليل هتلاقي شي ما لوشي آخر متعرفش فيه أبوك من أخوك .

وفي رواية تانية كان عند بيت عبد الآخر في طهطا . على حكاية برضه الكلبة دي . وبعدين قال له : يا شيخ لو جبت فينا نكت تاخد عشرةْ جنيه . قال له : عشرة جنيه ! . قال له : طيب ماشي . وبعدين جو وهمه فاعدين قال له : الوالدة دي يا شيخ محمد ؟! ( يقصد العمدة محمد عبد الآخر )، قال له محمد عبد الآخر : دي مخلفة اتنين لما يقوموا على بعض ما تعرفش أبوك من أخوك .

(18)
ليَّ عليك مرة
** الراوي : حامد عثمان ( 40 سنة ) جــرجا .

* دخل دورة مياه عمومية في قصر النيل وعندما خرج طلب منه العامل خمسة مليمات ، فأعطاه عشرة وتركه ومضى ، فناداه العامل لك باقي خمسة مليمات ، فقال له يبقالي عندكم مَرَّة " .

(19)
المدمس حاضر والصبح قضا
** الراوي : الحاج محمد عبد الرزاق الخضيري ( 73 سنة ) جهينة الغربية.

من ضمن الكلام بتاعه . بيقولك الطلبة لما جه الشيخ المراغي ودخَّل تعديلات في الأزهر قوم ع يتكلموا وبيقولوا طلبة الأزهر ومش عارف إيه والرسمي والقسم العام وحاجات زي كده . قوم ع يقارن بين الطلبة بتاعت زمان بتوع العمدان وطلبة اليوم اللي هُمَّه في النظام الجديد . قال له : طلبة اليوم بياخدوا المدمس حاضر والصبح قضا . يعني .. بتوع العمدان كانوا يصلوا الفجر حاضر . لكن طلبة اليوم بياخدوا المدمس حاضر يروح يجيب المدمس الأول ياكله حاضر وبعد كده - واخد بالك – يبقى يصلي الصبح قضا . يعني معنى الكلام التعليم حصل فيه ارتجاج لأن شيخ العمود كان بيعلم الإنسان اللي قدامه على أساس العلم إنما النظام الجديد بقي التعليم علشان خاطر يطلع يلقى وظيفة. ده معنى كلمته المدمس حاضر والصبح قضا.

(20)
مصر زمانها غرقت
** الراوي : حسام عبد المقصود ( 28 سنة ) الطليحات .

* كان في القاهرة وأثناء عودته دخل دورة المياه في محطة مصر ، وخلع لباسه وتهيأ للجلوس لقضاء الحاجة ، وبينما هو على هذه الحال أمسك بحبل يتدلى من صندوق حديدي واعتمد عليه فانجذب معه إلى أسفل واندفع ماء السيفون فخرج مهرولاً . ولما عاد إلى جهينة سأله الناس : " إزَّاي حال مصر ؟ " . قال مصايب :
" مصر زمانها غرقت واللباس عايم فوقيها " .

(56)
موسى راح وحده
** الراوي : طارق القاضي ( 31 سنة ) طهطا .

* يقولك إن مصايب كان كل خميس يروح طهطا عند بيت عبد الآخر . عند العمده محمد عبد الآخر . يقولك كان كل يوم خميس يروح طحطا يقعد في السوق شْوَيَّة وبعد كده يروح يقعد عند العمدة عبد الآخر ده . فكان يغديه العمدة محمد عبد الآخر ويقضي معاه النهار ، وف يوم راح له ومعاه ناس من جهينة ، سألوا على العمده ، قال العمده للخدام قول لهم العمده مش قاعد ، فمشى عمنا مصايب مع الناس وصلهم لأول الطريق كده وجه راجع . فلقي العمده واقف في التراسينه . فقال له يا عمده دا موسى لما راح لربنا ربنا قابله . وانت بتنكر نفسك مننا ، قال له العمده : موسى قال لأهله امكثوا في السوق وراح وحده مخدلوش معاه تمانين نفر .

(22)
هديه وعطيه
** الراوي : حسام عبد المقصود ( 28 سنة ) الطليحات

* مأمور المركز جاله اتنين اتعينوا عنده جديد واحد اسمه هديه واحد اسمه عطيه . كانوا متقمعين كده ومتنـزهين وما عاطينش حد معاهم . المهم المأمور متغاظ منهم وعايز حد يهزقهم . فبعت لمصايب وقال له . فجه مصايب لابس لبس نزيه ومتوضب على الآخر وراح قاعد وسط الاتنين دول وراح حاطط رجل على رجل . كان لابس جزمة فرده بيضه وفرده بني . فقعدوا يضحكوا عليه قوي . فقال لهم ع تتضحكوا على إيه . فبيقولوا له حد يلبس جزمه كل فرده شكل . قال لهم معلهش أنا أصلي أقرع ونزهي وجزمتي دي مرقعه فرده هديه وفرده عطيه .

(23)
واحــدة باقيالك
** الراوي : ( من محفوظات الباحث )

مرة فيه راجل تقل على الشيخ صديق لما كان عند الشيخ مصايب . يقول له والنبي يا عم الشيخ تقرا كذا ، والنبي تقرا كذا ، وكل ما يخلص الشيخ صديق عُشْر داك التاني يقول له والنبي قول كذا وكذا ، المهم راح مصايب قال للراجل كده انت طلبت من الشيخ صديق يقرا لك القرآن كله وما فاضلشي حاجة تسمعها هنا إلا آية وحدة ، إقرا له يا شيخ صديق : " إني أنذرتكم بواحدة أن تقوموا ". فضحك كل اللي موجودين في المجلس . يعني هوه يقصد إنه يمشيه يعني قال قوم من هنا خالص .

(24)
يوم العيد
** الراوي : حسام عبد المقصود ( 28 سنة ) الطليحات .

* كان الباشا الشندويلي في كل عيد يعمل وليمه لحبايبه واصحابه ، وفي سنه من السنين قصد الباشا الشندويلي الحج ، فكان في وداعه الناس كلها من اصحابه ومعارفه من الأعيان وغيرهم ، وكان من بينهم الشيخ مصايب ، فلما هُمَّ جُه ماشيين جه الشيخ مصايب ومسك وتبَّت في إيد الباشا الشندويلي من شباك العربية ، وقـال له : " والنبي يا باشا ما تفضل هناك لغاية العيد علشان وليمة يوم العيد ربنا ما يقطع لك عاده ". فكل الواقفين فطسوا على روحهم من الضحك .

· تعليق ختامي :

هذه أربع وعشرون حكاية من نوادر الشيخ مصايب، تمثل جزءاً من النسخة المدونة في تلك الحكايات التي قمت بجمعها ودراستها وتحليلها، متمنياً أن يتاح لي نشر أجزاء أخرى من الحكايات ومن الدراسة التحليلية ؛ آملاً أن أكون قد حرثت بذلك البحث – ما نشر منه وما لم ينشر – أرضاً منذورة للجدب والعفاء، فالحكايات الشعبية أشبه ببئر الماء، إذا استُهْتِنَ هتن وإذا تُرك جف؛ وما حسبي في ذلك إلا أنني كنت صادق النية ماضي العزم حثيث الطلب، فإن أجدتُ فمشاعل كثيرة أضاءت الطريق وأيادٍ ودودة ترفقت وأعانت، وإن أسأت فمن نفسي، وأود ففي الختام أن أستثير الانتباه إلى أنه على الرغم من نسبة هذا العمل لي، إلا أنه ما كان ليتشكل وينمو ويكتمل بغير ذلك التعاون الصادق والمساعدة المخلصة التي قدمها لي عدد كبير ممن عنوا بموضوع البحث في محيطه، من أدلاء ورواة، ومن غير هؤلاء وأولئك من أهل جهينة الذين لم يزاالوا يتصفون بصفات عربية بكر .

2007/11/16

تفاحة البدوي اليابانية
رؤية: علاء الدين رمضان
ورقة ارتجالية مقدمة إلى احتفالية محمود البدوي
بقصر ثقافة أحمد بهاء الدين بأسيوط
الاثنين 22 من مارس 2004
محمود البدوي راهب القصة القصيرة المصرية، زاهدها الذي أعطاها كل جوارحه ولم يسع من وراء ما أعطى إلى ما يعود عليه بالنفع، فزهد في البحث عن مردود إبداعه عليه من عناية الدارسين والأدباء، فكانت له اليد العليا في ما لحق به من ظلم، وإجحاف وإغماط حق؛ إلا أن الباطل لجلج والحق أبلج فيزول الباطل وجواهر الأشياء تبقى، ومن هـذا المنطلـق زالت أغطية الباطل عن جواهر الحق فخرجت للحياة الأدبية كنوز إبداعية رائدة مثلما هـو الحال مع محمود البدوي ويحيى حقي ومن لف لفهما، إذ بدأت الدراسات الأدبية مؤخراً في درس آثار هؤلاء الرواد الذين أثروا الحياة الأدبية بكنوز طمرتها الأساليب الموجهة في التناول والدرس، حتى في الصروح العلمية، وما إن تخلصت الدراسات النقدية من الدوافع الموجهة وما كانت تكبلها به من ربقة حتمية الاتجاه، سواء كان ذلك أيديولوجيا سياسيا، أ م عقدياً أم غير ذلك، وعلى أيسر الفرضيات : التوجه اللغوي البحت أو القُح في التناول .
إن محمود البدوي ابن قرية بني زيد الأكراد مركز أبنوب بمحافظة أسيوط، الذي ولد سنة 1908، قد ملأ الدنيا تغريدًا وشدوًا وسفرًا وانطلاقاً وبدأ يقيد أعماله الإبداعيـة في مجموعات منذ عام 1935 إذ بدأ بمجموعة الرحيل وظل يقدم للمكتبة العربية عددًا ثرياً من الأعمال الكثيرة كمّاً . الكبيرة كيفا ً ومضمونا ً وعطاءً و إبداعا ً فقدم علامات مهمة في طريق القصة الفنية القصيرة في الأدب العربي مثل رجل وفندق الدانوب والذئاب الجائعة والعربـة الأخيرة وحدث ذات ليلة والعذراء والليل والزلة الأولى وعذراء ووحش وغرفة على السطح وصقر الليل ومساء الخميس والسفينة الذهبية والباب الآخر وصورة في جدار … حتى أنهى مكتبته الإبداعية بمجموعة السكاكين عام 1985 وتوفي رحمه الله في الثاني عشر من فبراير عام1986م.

والمتأمل في عناوين المجموعات تتجلى له واقعية محمود البدوي أشبه بتجسيد مرئـي ووجداني ورمزي لأحداثه كل ذلك في مزيج واحد تغلفه رومانسية شفافة ليس في أعمالـه مباشرة الواقع وسطحية الواقعية ولا تهافت الرومانسية ومعاظلتها ولا الافتعال الفج غير المبرر؛ بل إنه يحمل عيناً وقلماً أشبه بالكاميرا والفيلم مع لمسات مونتاجية تزيد من فاعلية الحدث الذي يقدمه في إنكار تام للذات التي قد تكون هي أبرز ما في التجربة، بل قد تكون الذات هي البطل الرئيس للقصة إلا أن القاص الرائد بما يحمله من خبرة فنية قديرة يستطيع توجيـه أحداثه توجيهاً يفرض على التجربة المعادل الموضوعي الذي قد يحول الذاتية إلى إيحاء جمعـي يصير معه البطل الفرد الذات معادلاً لثقافة كاملة، لنستعيد معاً شهادة موجزة لمحمود البدوي حول مادته الأدبية التي يستقي منها موضوعات قصصه، يقول البدوي: " أكتب من واقع الحياة .. وأبطال قصصي التقيت بهم وعشت معهم وأحببتهم جميعاً .. ولا توجـد شخصـية
خرافية أو خيالية في قصصي قط، وقد يولد اللقاء العابر قصة كما تولد المعايشة الطويلة .. ومن هذه اللقاءات تأتي قصة القصة .. " هذه الشهادة صدر بها البدوي عددً ا من المقـالات القصصية الشائكة التي سماها قصة القصة، فدل بتلك المقالات على أمر مهم جدًا هو ما كان يعاني منه المجتمع الأدبي من عشوائية، بل وما يزال يعج بهذه العشوائية إذ كان لزاما ً علينـا منا قشة البدوي عندما كان بين ظهرانينا فيما يقدمه من " قصص القصـص" أو بمعـنى أدق وأكثر وضوحاً ما وراء القصة أو المادة الخام للمادة الفنية قبل أن يدخل إلى النسـق مقـص الرقيب؛ كان علينا أن نستهتن نبعه ونستزيد دره منذ يناير عام1984 عندما بدأ نشر تلك المقالات شديدة الخصوصية والتي يطمح النقاد كثيراً في الحصول على أمثالها لتسهيل عمليـة الغوص في الأعمال الأدبية لأدبائنا الكبار، وقد كان ليحيى حقي تجربة سابقة علـى تجربـة البدوي وهي المعروفة باسم خليها على الله، ثم كناسة الدكان .. لقد خضع محمود البدوي لعدد من العوامل التي أدت دورًا مهماً في تنشئته الفكريـة والأدبية أول هذه العوامل البيئة التي نشأ فيها، إذ كان للقرية وتقاليدها الأثر الكبير في بعض أعماله بل تحول هذا الدور إلى دور رئيس يحرك الأحداث : يبنيها ويوجهها؛ ثم بعد ذلك نجد عاملاً آخر هو ارتباطه بالمدرسة الحديثة أو على الأدق منجزات المدرسة الحديثة، إذ نشأ في ظل أفكار مدرستي السفور والفجر وهما مدرستان عنيتا بالقصة عناية كبيرة، و قد نهل البدوي منهما بعد أن قُعِّدت اتجاهاتهما واستقرت رؤاهما وآتت أُكلها في أعمال محمود تيمور ومحمود عزي وغيرهما، وقد شجعت هذه الاتجاهات قراءة الآداب الأجنبية ونقلـها والتـأثر بها وبتجاربها، ويبدو أن البدوي تأثر بها لدرجة أكبر مما كان متوقعاً فتحول من مجـرد متلـق للثقافات إلى رحالة يبحث عن تجاربه خار ج حدوده الإقليمية فسافر شرقاً وغرباً من اليابـان شرقاًُ إلى أمريكا غرباً إلى أطراف الاتحاد السوفييتي السابق شمالاً …؛ فكانت المؤثرات المحيطة به في حياته الاجتماعية والعملية هي العامل الثالث في منظومة عوامل تنشئته الفكرية والأدبية فتأثر بالسياسة والأيديولوجيات المعاصرة لتجربته كما تأثر بالسفر والترحال من بلد إلى بلد، وكان السفر من أبرز التجارب التي استمد منها محمود البدوي أعماله، فكثـرت نماذجهـا وتنوعت بل إنني أرى أن أعماله التي تناولت تجارب مستقاة من مادة الترحال هي من أقوى أعماله واتجاهاته الفنية .
واسمحوا لي أن أقدم رؤية عاجلة أو متعجلة حول إحدى تلك التجارب وأسلوبه الفني
في معالجتها، وما تلك من بين كم ما لدينا من أعماله سوى قصة ( التفاحة ) التي أعدها مـن أقدر قصصه على عرض عدد من الاتجاهات الفنية والأسلوبية لدى محمود البدوي .
قصة التفاحة تحكي عن لقاء لم يشأ له البدوي أن يكون عابرًا بينه وبين فتاة يابانيـة في شارع جيترا بمدينة طوكيو، نجد أن الأديب يستخدم الأداة الأولى التي يجب علـى القـاص استخدامها أولاً حتى وإن تأخر ظهور دورها عند الصوغ، لقد استخدم العين الفاحصة التي تسجل كالكاميرا، ليس عنده مسكوت عنه داخل المشهد؛ فليلته كانت من ليالي السبت، سيره كان منفردًا، وكان في شارع جيترا، وجيترا في طوكيو، وطوكيـو متألقـة بمحالهـا التجارية، ومحالها التجارية لها أنوار زاهية، من حوله مارة يرتدون زياً مختلفاً وكلهم لهم أناقة بالغة، النساء من بين المارة لهن رونقاً ومنظرًا يستهوي النفس ويأخذ بمجامع القلب وهن في لباس الكومينو..، ويظل محمود البدوي على مثل هذه الشـاكلة حـتى يـدخل إلى أدق التفاصيل وكأنه قمر صناعي يبدأ بنظرة شاملة بؤرية حتى يصل إلى التفصـيل الأدق الـذي يقصد إليه، فقد استخر ج البدوي من بين النساء اللائي يرتدين الكومينو : فتاة يابانية إلا أنها لم تكن في زي ياباني، بل كانت ترتدي زياً أوروبياً وهنا ينقلب الحال لدى المتلقي الخـاص، فمحمود البدوي ممتع جدًا إذا كان مجرد قاص راصد بلا قضية، تتوالى صـوره بتفاصـيلها وكأن قارئها يعيش في قلب الأحداث وكأن الأحداثَ حلم ممتع، حتى وإن كانت قاسـية، فقلم محمود البدوي يسبغ عليها جمالا ً وفتنة . أقول إن هذه هي القاعدة العامة لتلقي أعمـال محمود البدوي التي يشترك فيها عامة المتلقين، غير أن الأمر يختلف تمامـاً لـدى القـارئ المتخصص والدارس المتعمق إذ يجد كل منهم وراء الصورة الغفل الزاهية قضية فكرية كبرى إذ تحمل الجملة الواحدة ما لاتحمله كتب علوم الاجتماع والنفس والتاريخ، فهو مثلاً رأى فتاته ثلاث مرات متتاليات صدفة في أماكن مختلفة، تقف بهيئة واحـدة ليصـورها مصـور فوتوغرافي، فعرف أنها موديل تصوير؛ ثم فوجئ بها للمرة الرابعة أو المصادفة الرابعة نادلة في مقهى، ويبدو أ نها من فتيات الجيشيا الشعبيات وهن يرتزقن من الأعمال المختلفـة أدناهـا التصوير والعمل بوصفهن نادلات، وأعلاها البغاء .
دخل البدوي إلى مقهى صغير بعد جهد التجول في المدينة الضخمة، بالمقهى سبع فتيات حسان يخدمن الرواد، ويقول :
" وانحنت أمامي حسناء تسأ لني في أدب ورقة عما أطلب.. ، ولقد عرفتها في الحـال
كانت هي الفتاة التي شاهدتها منذ ساعة تتصور في الطريق وقلت لها وأنا أنظـر في السـواد المتألق في عينيها :
- زجاجة صغيرة من البيرة .
- لا يوجد هنا بيرة .
- لا توجد بيرة ؟!
- إطلاقاً إنه مقهى كما تر ى، فيه قهوة وشاي وعصير فواكه، ويمكن أن تطلب وجبة
خفيفة .
- إذن سأشرب قهوة ..
- حالاً .."
وهناك مشهد آخر يجب عرضه وضمه إلى المشهد السابق قبل تأملهما معاً والحديث عن معطياتهما الفكرية الخاصة المضمرة ..
" كان ثمن الفنجان 60 يناً .. فأعطيتها قطعة بمائة ين ولما ردت الباقي قلت لهـا إنـه
بقشيش .. قالت برقة وقد احمر خداها : - إننا لا نأخذ بقشيشاً ؟.
- لماذا ؟ ..
- قالت : هذه تقاليد القهوة !!
وإذا أضفنا إلى المشهدين السابقين مشهدًا آخر يتعلق بالنادلة، إذ سألها :
- هل كانت الصورة كتذكار ؟
- قالت أبدًا .. إن المصور يبيعها لمجلات أمريكية .. فوج .. ولوك ..
- وكم تأخذين عن الصورة ..
- قالت : خمسمائة ين،
فتعجب قائلاً :
- خمسمائة ين، إنه يبيعها بمئات الجنيهات ..
- قالت : إن العملية لم تستغرق أكثر من نصف ساعة، والخمسمائة ين لا بأس بهـا لفتاة مثلي ..
هنا يتضح الفارق الكبير بين العقليتين : الشخصية اليابانية، والشخصية العربية، فهناك فجوة كبيرة في التفكير وأسلوب مواجهة الحياة : فهو مثلاً يتناقض مـع عقيدتـه وتقاليـده فيطلب البيرة باستمرار وفي أي مكان وأي وقت وهي ترتدي ملابس أوروبية للتصوير، وهنا تماثل في التمرد على التقاليد الخاصة لكل منهما، أما الفارق بين الشخصيتين ففي اليابان فارق بين المقهى والمشرب، كما أن هناك رؤية واضـحة للبذل والعائد، فبينما بطل القصة نظر إلى ما سيأخذه المصور من وراء لقطاته، نظرت الفتاة اليابانية إلى قيمة ما ستبذله، ويقابل ذلك أيضاً أننا نمنح دون تفكير وليس هذا سـخاء بـل ترهل وعدم مسئولية وسوء تقدير بينما في اليابان يرفضون أن يأخذوا دون وجه حق ..
ننتقل أيضاً إلى مقارنة عقلية أخرى، فبينما هو يشعر عندما أمسك بيديها أنه ليس في الوجود كله ما يمكن أن يفصله عنها .. ثم عندما وصلا إلى الفندق وجد نفسه يسير بهـا إلى المصعد ومنه إلى غرفته، وقد جلب معه تفاحاً ليأكلاه معاً.." خلعت الفتاة سترتها وأخذت تأكل من التفاحة وهو يقضم قضمة ويقبل فمها مرة .. هنا عشوائية في الأخـذ، بـل لي أن أسميها حيوانية في الرغبة لم تظهر وتتجلى إلا عندما يطرح الكاتب كعادته النقيض في التفكير والأسلوب والأداء بعد أن أكلت تفاحتها قامت إلى الحمام لتتزين وتتخفف من بعض ملابسها .. كل شيء لدى أصحاب تلك العقلية يتم بمعيارية دقيقة، يقابل ذلك عشوائية وانـدفاع لدى العقلية العربية، فعندما دخلت إلى الحمام ألقى بالتفاح المتبقي في سلة المهملات كـي ينشغل بقضم تفاحة أخرى لكنها من لحم ودم، فلما خرجت ولم تجد التفاح سألت عنه ولمـا علمت أنه ألقاه في السلة لقنته درساً جديدًا إذ أخرجتها وغلفتها في ورقة .. ليبدأ التحول في الشخصية المقابلة، وكانت أولى علامات التحول إحساسه بأن فقرها إلى التفاحة التي حملتها إلى والدتها التي لم تذقه قط، أحس بلسعة سوط مزق لحمه وذابت عواطفه الجياشـة تأسـى عليها، فبدأ ينظر نظرة أخرى إلى تلك الفتاة التي تزينت وخففت كثيرًا من لباسها .. فلمـا أخبرها بأنه لن يخلع سترته بل سيصحبها إلى أمها، ضغطت على يـده، فشـعر بـالحرارة الإنسانية للمرة الأولى، الحرارة الخالصة للنفس البشرية، الحرارة المتدفقة من أعماق القلب، وكأن ميزانه البشري وعقليته قد اعتدلا وأشير هنا إلى ولوع البدوي بـالجنس واسـتخدامه بوصفه تيمة في أعماله، بعضه مقبول وجله مردود عليه ..، هذه ليست رؤية لأعمال محمود البدوي بل تطواف سريع ومشاركة عجلى أدعو الله أن يتيح لي من الوقت والجهد ما أستطيع معه وبه تدارس أعماله بشكل عملي علمي .. ولكم التحية ..
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
alauddineg@yahoo.com

صبي على السطح

جوخة الحارثي كاتبة عُمَانية مميزة، لأعمالها صبغة فنية وفكرية شديدة الخصوصية. تنوعت مؤلفاتها ما بين الرواية والقصة القصيرة والقصة القصيرة جداً، لكنها ظلت تحمل الطروحات الوجدانية للأديبة، تلك الطروحات الممثلة دائماً في الذكرى والفراق . الناقد علاء الدين رمضان*، يقدم قراءته للمجموعة القصصية التي نشرتها الحارثي أخيراً بعنوان "صبي على السطح".


النشر الورقي : مجلة القافلة، العدد الخامس، المجلد 56، ص 78 - 85 ؛ شعبان - رمضان 1428هـ / سبتمبر - أكتوبر 2007م



جوخة الحارثي في "صبي على السطح"
الهروب من الانكسار إلى الرمز
ــــــــــــــــــــــــــــــ
علاء الدين رمضان
ــــــــــــــــــــــــــــــ


تعد مجموعة ( صبي على السطح ) للأديبة جوخة الحارثي، من المجموعات القصصية المميزة، التي صدرت مؤخراً، لتضيف إلى ثقافتنا العربية المعاصرة بعداً إبداعياً جديراً بالاهتمام والتقدير، لأسباب منها الصدق وفطرية الطرح وبراءة الرؤية، إلى جانب قدرة الكاتبة على الصوغ الفني البارع وأسلوبها في تسجيل التجربة وإدارة الواقع الجمالي للنص ووقائعه بطريقة تدفع القارئ للتفاعل الوجداني دون روية أو اختيار، وكأنه صاحب التجربة الأم أو طرفها الفاعل .
وعلى مدار ثمان عشرة قصة قصيرة وخمس قصص قصيرة جداً، كانت الكاتبة قادرة على طرح رؤى متزنة في نفسيتها، حتى وإن كانت تلك التجربة تعبر عن طبيعة منحرفة أو غير متوازنة بذاتها، وهذا بدوره يكشف عما يمكن تسميته بالجانب الاحترافي لدى الكاتبة العُمَانية جوخة الحارثي.


· أساليبها المستخدمة :

ولعل من أبرز السمات الفنية لدى المؤلفة، تنوع استخداماتها الأسلوبية؛ إذ استخدمت في مجموعتها ( صبي على السطح ) أسلوب الرؤية من الخارج – وهو أسلوب نادر نسبياً – في بعض قصصها حيث اكتفت بوصف ما يُرى وما يُسمع دون تجاوز ذلك إلى وعي الشخصية ( مثل العرس، ومشوار لسيتي سنتر ).




تقول في قصة العرس: " سلومة جالسة على كرسيها، ظهرها مستند بكامله على المسند، ورأسها لا بالمرفوع ولا بالمطأطئ، يداها على حجرها بالخواتم الذهبية والفضية والأساور والخرز، وقدماها ثابتتان على الأرض بخلاخيلهما، وعلى فمها شبه ابتسامة، كأن فيها من الرضا والمباركة شيئا، أما نظرتها فثابتة، ممتدة على مدى أفقي، لا تكاد ترمش، في رنو مسترخٍ على العروس".

كذلك استخدمت أسلوب الرؤية المرافقة لتعرض بوساطته عالم النص وبيئته من منظور ذاتي داخلي لشخصية بعينها – قد تكون الكاتبة نفسها – دون أن يكون لها وجود موضوعي محايد خارج وعيها، ( مثل جُل قصص المجموعة وفي رأسها قصة "صبي على السطح" التي احتشدت بالشحنات الانفعالية ).




هذا الأسلوب في معالجة التجربة هو ما تسميه الناقدة البلجيكية فرانسواز كيون: الواقعية الفينومينولوجية – الظاهراتية، حيث يعرف السارد أكثر مما تعرفه الشخصيات، لكنه لا يطرح هذه المعرفة أو يفسر بوساطتها خط الأحداث أو الأحداث نفسها أو يبرر بها أفعال الشخصيات أو اتجاه المواقف؛ قبل أن تصل الشخصيات ذاتها إلى ذلك ( مثل قصة "الخيول الراكضة" ). ويدلنا على هذه المعرفة المثالية – وربما المطلقة للراوي – عدد من المظاهر أبرزها عند جوخة الحارثي الجمل الاعتراضية والتعليق أو التفسير الخارجي وإضاءة السياق والاستطراد والملاحظة وهي كلها من المميزات اللغوية عند الكاتبة؛ تقول في قصة (العرس): كأنها قد خلقت لذلك الكرسي، وطوال حياتها لم تعش في غير هذا المكان، كأن سلومة قد وجدت هناك منذ الأزل فوجودها متصل وسيتصل أبداً". وفي قصة ( على الكرسي الخشبي في الحديقة ... جلسنا ) تقول : " كأن الكرسي لن يتوازن إلا بجلوسنا هكذا ".

إذ تعد الملاحظة والاستطراد والجمل الاعتراضية نقاط كشف وإضاءة وتنوير تضيف للنص ولأبعاده الدلالية والأدائية .

أما الأسلوب الثالث الذي استخدمته الكاتبة بسعة؛ فهو أسلوب الرؤية الشمولية ( أو السارد ذو الخلفية المتكاملة الواضحة )، وهو نمط كلاسيكي السارد فيه يملك معرفة مطلقة لا يعوقها عائق عن التدفق خلال الصوغ، وهو أكبر معرفة من الشخصية نفسها، ويستخدم هذا الأسلوب ضمير الغائب؛ تقول الكاتبة في قصة التيمينة : "سيقيم أبوها مأدبة ضخمة، ويذبح خرافا كثيرة من المزرعة، وستوزع أمها الحلوى على الجميع بعد أن يرجعوا من التيمينة، ويمروا بهتافاتهم على كل أنحاء البلد، سيلتهمون الحلويات بلا حساب، وستلعب البنات بالزعفران الذي تضعه أم نورة على وجوههن، ويدعكنه في خدود بعضهن البعض كما فعلن في تيمينة بلال، ولن تنتبه أمها إلى جانب من تجلس نورة، ضحكت نورة بحبور وهي تدندن : هذه تيمينة مبينة فائقة رائعة حسينة.."؛ فالكاتبة هنا ذات وعي كلي متكامل داخليا وخارجياً، فهي تعرف تفاصيل الأحداث الخارجية أكثر من الشخصيات كما تعلم ببواطن ما يدور في وجداناتهم، فنلاحظ استخدامها لسين التسويف وأفعال الاستقبال، كما أنها تدري ببواطن الأمور كما تعرف ظاهرها ومستقبلها؛ فنجد أن نورة عندما ضحكت.. ضحكت بحبور؛ وكذلك في قصة الخيول الراكضة كانت الراوية على وعي مطلق بشخصية ناصر العبد الذي لم يعد يفهم المتغيرات المتلاحقة من حوله : " ناصر العبد لم يعد يفهم، كان يرى الحياة ساكنة، كان يلمس الحياة ساكنة، ولكنه عرف، بطريقة ما، غامضة، أنها ليست ساكنة كما تبدو" .




والكاتبة بذلك استطاعت أن تستغرق ثلاثة أساليب مميزة في نتاج نصها : ما بين السارد الملاحظ أو الراصد للأحداث، والراوي المشارك فيها، والراوي العاكس لها؛ من خلال مراتب، توزعت بين المستويات الأدائية للسارد ومرتبته في النص، ما بين سارد كلي المعرفة أو سارد ذو وجهة نظر، وسارد موضوعي محايد .


· شعرية السرد :
يتميز أسلوب الكاتبة بسمات شعرية مميزة وواضحة، ربما تتجلى عندما تحاول الكشف عن نفسيات شخصياتها، لأن ذلك يكون في الغالب بوساطة لغة شفافة ذات بعد شعري وحضور لغوي واعٍ، قد يجنح إلى الغنائية، تقول مثلاً : " كانت ضحكتها موجة مشاكسة لم ترجع للبحر".

وقد تطور هذا الأسلوب الشاعري في بعض القصص ليصل إلى دور المحرك الرئيس للنص كما هو الحال في قصة ( ماء غير آسن ) حيث ترى عائشة الكلمات عندما تهجر الشفاه المنهكة متصاعدة، ولا يراها سواها، وكذلك في قصة ( الأشياء )، حيث تقول الكاتبة في منولوج خارجي على لسان الشخصية الرئيسة للنص : " آه أيتها السعادة .. عرفتك من رنين صوتك حينما رحلتِ .."؛ فالكاتبة تنظر إلى اللغة بوصفها كيان مستقل أحياناً، لا بوصفها مجرد وسيط دلالي لتوصيل التجربة، وفي سبيل ذلك تسبغ عليها قيماً تجسيدية، وقد تصفها بصفات توحي بأنسنتها، كما أنها تنظر أحياناً إلى اللغة بوصفها بنية مجردة؛ لكنها أيضاً تسبغ عليها استقلالية الوجود، وتسند إليها الأفعال والتحولات، تقول في ( ماء غير آسن ) : " وترتعش ( عودي ) أمام عيني عائشة، ثم تضطرب بقوة، فتركض لتلحق بها، فتفر، فتركض، حتى إذا ما سقطت إعياء كانت ( عودي ) عوداً خشنَ الأوتار، قد اختبأ في الفضاء"، فبين لفظتي "عودي" و "عود" تناسب جناسي في الدلالة، ومظهري في التجسيد .

والكلمات تسهم عندها في تحويل بنية النص واتجاه الدلالة، في ( ماء غير آسن )، تنفي البنية ما يحاول النص طرحه من قيم سلبية تشين سيرة أم عائشة، وكذلك تعبير " الكلمات البيضاء "، يدرأ عنها سوء الظن الذي حاول النص إثباته بقوة، وربما انجلت غمرة النص بينما يظل الغموض عالقاً بذهن المتلقي الذي لا تسعفه أية دلالات لتكوين حكم قاطع على شخصية أم عائشة، وربما السبب الرئيس في ذلك يعود لأسلوب استخدام الكلمات، وإحساس المؤلفة بها .

ومن أبرز أنماط الاستخدام الدلالي للغة لدى الكاتبة؛ الارتقاء بالغرائز عند الحاجة إلى الإحالة إليها؛ فالكاتبة ذات لغة وأسلوب على درجة عالية من الرقي، تحترم الفكرة التي يلوح بها النص وتسبغ عليها ذلك الوقار، حتى وإن كانت إحالة إلى غريزة تصل بين يدي كُتَّاب آخرين إلى الابتذال والإسفاف، والأمثلة على ذلك كثيرة؛ فمثلاً قصة ( المحبوب ) من المجموعة، تحتشد بالإيحاءات والإحالات الجنسية التي تشي بعدم تحقق العلاقة الزوجية، ترسخها عبارات من قبيل: " إلا أن قبضته قد صدئت على المفتاح دون أن تهتدي لموضع القفل"، و: " العجز عن امتلاك المحبوب".

ومن ذلك أيضاً قولها في قصة ( صبي على السطح ): "توتر جسد الصبي وتصلبت كل عضلة فيه وهو يرى خصلاتها تلتصق بجبينها ورقبتها". وهو إيحاء جنسي واضح لكنه غير مبتذل ولا مخل، يرتكز على البعد الإشاري والطاقة الإيحائية الكامنة في لغة المؤلفة وقدرتها على توظيف مفرداتها من ناحية، ومن ناحية أخرى عمق الإحساس بالتجربة الفنية وأساليب نتاجها .

· والتكرار من سمات الأسلوب
أما التكرار فيعد من السمات الأسلوبية لدى الكاتبة، وهي سمات ذات بعد نفسي بالدرجة الأولى؛ لأن اللفظ لن يحمل دلالته عند تكراره للمرة الثانية؛ إنما سيحمل ظلاً إشارياً، بينما يقل المعنى المحمول بوساطته بوصفه معرفة، فلا يقدم جديداً في المستوى المعجمي أو الدلالي للبنية المفردة، لكنه عندئذ يفتح سيلاً من الدلالات الوجدانية والنفسية، ويلعب أدواراً في مجالات بلاغية ونحوية أخرى كالتأكيد؛ تقول الكاتبة في قصة ( المحبوب ) : "وهمست.. همست لي"؛ فالتكرار هنا يوحي بالانفعال، والتأكيد على اتجاه الهمس إليه يزيد الانفعال أهمية لتخصيصه وقصره على نفسه .

ومن أوجه استخدام التكرار عند الكاتبة: التكرار ذو المعطيات الدلالية الضمنية التي تسهم في دعم التصاعد الدرامي للحدث داخل القصة، ولا يقوم دونه البناء النسقي والدلالي للتجربة الفنية، مثل جملة " ندف الغيم الأبيض"، التي كررتها الكاتبة في القصة الرابعة ( في الساعة الأولى ) من قصصها القصيرة جداً؛ حيث وردت الجملة في درج النص وآخره

· التصوير النفسي للواقع :
وللمؤلفة قدرة مؤكدة على استخدام الأبعاد النفسية والوجدانية؛ تضاهئ قدرتها على صوغ تجاربها بأساليب لغوية وفنية بارعة، ومن وسائلها لتحقيق هذه البراعة التصوير وتجسيد الحالات الوجدانية داخل صورة مؤثرة، تتراوح ما بين الرومانسي والدرامي، فتحمل في رومانسيتها المتلقي إلى آفاق من المتعة والتأثر الوجداني، بينما تضعه دراميتها في بوتقة ساخنة من التطهير النفسي، فالمؤلفة تكتب بعض نصوصها وكأنها أغنية رومانسية حالمة وزاخرة بالمشاعر والشحنات النفسية، ومن تلك النصوص: ( بستان الزيتون )، و( جنان )، و( حبة الفاصوليا)..، كما تكتب قصصاً أخرى بمنطوق درامي يشتعل واقعه بالانكسار والضغوط والإحساس بالعجز لحد التحول والتنازل عن السمات الشخصية المهمة كما في ( فراشة البحر )، حيث تغرق الشخصية الرئيسة في الهروب النفسي الذي تولد عنه تحول مادي كناية عن الإغراق في الهروب الوجداني أيضاً، والتقوقع داخل عالمها الخاص؛ بعيداً عن صراعات الحياة والحب والمادة والاختلاس والعوز .

وقد كرست الكاتبة بنية النقيض لتجعل منها مدار الرؤية في قصتها ( نقط خضراء في فستان أبلة فتحية )، إذ تعتمد القصة على بنية التناقض التي شاعت في كل تفاصيلها، فالمدرسة التي يجب أن تكون أماً رؤوماً، تتحول إلى شخصية متسلطة ونفعية، واللون الأخضر المسالم يتحول إلى نوع من التلويح بالعقاب والقهر وحامل الرهبة، ثم فيما بعد العقاب نفسه ممثلاً في الخرطوم الأخضر .

· زمن النص :
تجيد الكاتبة اللعب على وتر مستويات المضي، فالماضي المستدعى بوساطة الاسترجاع قد يقيم له النص حاضراً هو في بنيته الكلية ماض بالنسبة للحظة النص؛ فهذا الماضي الذي تنظم الكاتبة عقده ماض مضيء، متداخل، لكنه يظل حاضراً في نفسها لوضوح أثره عليها وضوحاً سافراً حتى لحظة القص، مما جعل لزمن النص أبعاداً غاية في الثراء والعمق؛ فللتجربة زمن ولمطروحات النص زمن ولدلالته بُعد زمني ثالث، مغاير للبعدين الأولين .

ومن أبرز طبقات الاسترجاع ما عالجت به المؤلفة قصتها ( بستان الزيتون )، حيث أبرزت نمطين من أنماط الاسترجاع، هما :

- أولاً : الاسترجاع القريب؛ ويتمثل في الحلم : " في الحلم الذي لم يتوقف عن الهبوط في نومي / كان الورد لا يلون قدميها ".
- ثانياً الاسترجاع البعيد؛ مثل استرجاع مشهد طعام الإخوة، كما أنه أيضاً نمط ينطوي على الشعور بالافتقاد .

وكذلك تعتمد قصة ( سأصلح القطار ) على الموقف الاستدعائي الاسترجاعي، الذي يختلط برغبة جامحة للامتزاج بالماضي والحرص على استبقائه بل والتفاعل معه، لكن هيهات فما الذي ستجنيه سارة بعد موتها من إصلاح القطار ؟؟...

والانفصال عن الماضي في مجموعة ( صبي على السطح ) بعامة، يصيب الشخصيات بالتوتر ويصيب التجربة بالانفعال وعدم الاتزان النفسي؛ فتحولات رجب العالي كانت لها علاقة مباشرة بذاكرته، وبنية الماضي داخلها؛ إذ اكتشف أن المرأة التي تزوجها وعاش معها كل هذه السنوات، منفصلة انفصالاً كلياً عن الماضي الذي يعيش فيه، أسيرا له؛ إذ " لا علاقة لكل ذلك بهذه المرأة المستسلمة له لأسباب تتعلق بالطبيعة الغريبة للبشر، التي لم تحاول الهرب إلى بيت أهلها ولم تحرمه من الطفلة التي أصبحت في المدرسة "؛ إنما له علاقة بعدم إحساسه بامتلاك النمط القديم الذي أسره، وظل يبحث عنه، لكنه لم يكن له واقع إلا في وهمه .

فنصوص جوخة الحارثي ذات أبعاد زمنية شديدة الخصوصية والحساسية، إذ تتعامل مع أنماط زمنية غير أنماط التجربة في الواقع، مما نشأ عنه افتراق فني بين زمن النص وزمن الواقع، كما في قصة ( نقط خضراء في فستان أبلة فتحية )، وقصة ( فراشة البحر )، وغيرهما .

أخيراً :
تحتشد المجموعة برؤى فنية وصوغية، جديرة بالتوقف إليها وملاحظة دورها في النص من قبيل : المكان والزمن واستخدام الضمائر وبناء الشخصيات، وأنماطها السالبة والموجبة، وعناية الكاتبة بالشخصية النموذج، وبناء العالم الخاص، واختلاق الواقع البديل، واستخدام المعادلات الخارجية الموضوعية والداخلية النفسية . والبنية الوجدانية والبعد النفسي للنص، بوصفه ذا حضور فاعل في بناء جل القصص، وفاعليته في السرد، وانعكاس ذلك حتى على الصوغ من خلال إبراز الشحنات النفسية التي تظهر في النصوص بوساطة الجمل القصيرة، على مستوى اللغة، والأوصاف ذات الأبعاد الإيحائية نفسياً . وكذلك الصور البيئية والتناص والاستعانة بالمأثورات والحكايات الشعبية المحلية والقومية والعالمية؛ أو التراثين الثابت ( الشعر ) والمتحرك ( الحكايات الشعبية والمأثورات النثرية )، واستخدام المفارقة والبنيات الشرطية ودورها في بناء التجربة، واستخدام أسلوب التدوير، وأسلوب التطور المرحلي، واستخدام الألوان والرمز، و التلاحق الوصفي في النصوص، وشيوع التوزع النفسي، والإحساس المفرط بالفقد وانتهاء الدور في كتاباتها . ثم أشير على نحو بارز إلى الاستخدام اللغوي والقصة اللغوية، وعتبات النص : العنوان والاستهلال والنهاية، ثم الناتج الدلالي .

وإجمالاً تعد أعمال جوخة الحارثي بيئة نموذجية للتناول النقدي، ولا أتصور أن دراسة واحدة قادرة على استغراق توصيف أبعاد هذا العالم وسبر أغواره، إنما تظل لبنة في بناء لا يدعم النص إلا كما يدعم الإطراءُ نجاحَ المجتهد .




*************
من قصص المجموعة :

* (1) - صبي على السطح
قصة : جوخة الحارثي

تلفت الصبي فلم ير أحدا وراءه، انسرب من سكة لأخرى، أسلمته الأزقة المظلمة للأشد إظلاما، اقترب من بيت العرس فدار حول نفسه فرحا بالأصوات والأنوار، التصق بالجدار سائرا على أطراف أصابعه مبتعدا عن مجلس الرجال المنفصل حيث فاحت روائح القهوة والحلوى الساخنة ،اجتاز الممر المترب بين المجلس والحوش، تناهت إلى سمعه أصوات ضحك النساء وغنائهن، فتأكد أن الحفلة تقام في الهواء الطلق، وبدأ في تسلق الجدار.
جسده الضئيل لا يشي بأعوامه الثلاثة عشر، أمسك طرف دشداشته بفمه وهو يتسلق الجدار بخفة، زحف بهدوء حتى سطح المخزن، دعس شيئا من الليمون المجفف هناك فلعن أصحاب الدار، ظل منبطحا على بطنه في حين أطل برأسه على حذر فلم ير غير منظر جزئي للحوش المضاء بمصابيح النيون، والمراوح المثبتة على الأرض بقواعد طويلة، وبعض النساء يخطرن حاملات صواني الطعام أو مجامر البخور أو مراش ماء الورد. الأغاني تملؤه، يعرف أنهن يرقصن الآن ولكنه لا يتمكن من الرؤية، تأفف، تلفت، ثم زحف بتهور من سطح المخزن إلى سطح المطبخ الأوطأ، ضاعت ضجة قفزته في الأصوات المختلطة، أصبحت حلقة الرقص على بعد أمتار قليلة، عيناه الضيقتان تتنقلان بحرية بين أجساد البنات الراقصة ووجوههن الفرحة، يهز رقبته وكتفيه، ويدندن بصوت خافت، يرسل بصره إلى صواني العيش واللحم، يتلمظ، ثم يعود ليتابع الخصور المهتزة في الفساتين المطرزة، ينظر إلى الجهة المقابلة فلا يرى شيئا من العروس المغطاة بالكامل، يهز رأسه مع الصوت الشجي :"عند العصر يا الكوس هبي، والزين روح عني مغرب ، ومن بعده ما صفا لي محب.."، يرقصن فرادى ومجموعات ، كلما تعبت واحدة عادت لتقعد وقامت أخرى غيرها، الصبي يصفر بمرح تصفيرا خافتا متقطعا، ويطأطئ رأسه بين الفينة والأخرى حذرا من ضبطه في هذا الكون الجميل المحظور.
اتجهت إحدى البنات بخطوات راقصة إلى امرأة تجلس في طرف الحلقة وسحبتها من يدها، فألفت المرأة التي على حافة الثلاثين نفسها وسط الأجساد النحيلة الراقصة، أخذت تضبط إيقاعات جسدها الطويل المائل للامتلاء شيئا فشيئا، أبصرها الصبي في الحلقة بغتة فلم يبصر ما عداها، بهذا الفستان الفيروزي الطويل الأكمام، واللحاف اللامع، لم يرها وهي تنهض، لم يرها وهي تحاول ضبط إيقاعها، رآها وسط الحلقة، ترقص، مستغرقة في ذاتها، يداها مطوحتان في الهواء، وكل ذرة في جسدها منقادة بلا حول لإيقاع الغناء، أبصرها الصبي فحاول أن يتملاها، زحف على يديه وركبتيه غير آبه بأي عين طائشة قد تلمحه، أطل برأسه الصغير من فوق الحلقة تماما، بحث عن عينيها ولكنه لم يرهما، كانتا غائبتين، وكانت نهشة العشق الصاعقة قد أطبقت أنيابها على روح الصبي، وحدها كانت هناك، وحدها تهز كتفيها بهذا التناغم المدهش، وحدها يتمايل جذعها بلمح البصر، ووحدها دقت بأقدامها الأرض ففتت أصابعهما الحافية قلب الصبي، وحدها كانت، ووحدها ستظل إلى الأبد، والعالم كله قد تلاشى واضمحل ليبعث بين أصابع قدميها، مد الصبي جذعه للأمام، جف حلقه واللحاف يتزحزح عن رأسها شيئا فشيئا، انساب العرق من مفرق شعرها إلى رقبته، تفلتت الخصلات السوداء وتبعثرت، توتر جسد الصبي وتصلبت كل عضلة فيه وهو يرى خصلاتها تلتصق بجبينها ورقبتها، الرقبة الحليب، الرقبة الفضة، يلمع فيها العرق حتى يغسل حبة الخال أسفلها منحدرا إلى النحر، إلى النهر، تدور حول نفسها، تهبط متمايلة إلى الأرض، وترتفع مرتعشة إلى السماء، وحبة الخال تغتسل مرارا بخط العرق المتصل، الذهول يغيب الصبي كما يغيب عينيها، هتفت بنت بشجن:" شفت غزيل شارد بين الغزلان .."، حمل الغزال الصبي على ظهره وشردا معا، تسارعت إيقاعات المرأة وتثنت، كاد الصبي أن يبكي لمخالب الألم الصاعق من تموج جسدها ، جسدها الماء ، جسدها الموسيقى، جسدها النُّبل والنِّبال، جسدها الملتوي حول عنق الغزال، محكم الالتفاف عليه، خانقه، حتى ترنح متهاويا مسقطا الصبي عن ظهره محشورا بين جدارين موثقا بحبال العشق الغليظة.




* (2) - التيمينة
قصة : جوخة الحارثي

منذ تلك اللحظة التي أوقفتها أمها بمواجهتها عرفت البنت الصغيرة أنها لم تعد طفلة، وكان هذا هو أهم حدث في حياتها على الإطلاق.
وضعت الأم يدها اليسرى على كتف نورة النحيل، وناولتها باليمنى مصحفاً أخضر اللون. تلقت نورة المصحف بكلتا يديها، حدقت في نقوشه البديعة المتداخلة، وتتبعت حروف "القرآن الكريم" على غلافه، أسرها الخط الفاتن الذي كتبت به الكلمتان، تحسست الغلاف الصلب القوي، وارتعش بدنها بنشوة الفرح.
منذ هذه اللحظة ستحمل نورة معها إلى الكتَّاب هذا المصحف الكبير الذي جلبه عمها من الحج، كُتِب عليه: "طبع بالمدينة المنورة"، ونورة تحفظ نشيد "طلع البدر علينا"، وتهتز لذكرى المبعوث المهاجر إلى المدينة، وحين تصفحت المصحف مرتجفة كانت زخارفه الداخلية ملونة، وعظيمة، واجتاح الشوق نورة لتدخلها، وتعانقها، وتلتحف بتعريجاتها المدهشة، هذا المصحف الأخضر المهيب به كل السور، كل السور التي يعرفها الكبار ويحفظها المعلم "سرور"، وكل أسمائها موجودة في آخر المصحف: "البقرة .. آل عمران .. النساء .. المائدة .."، حتى السور الطوال التي تفتح باب الجنة يحويها هذا المصحف، وكل هذا لنورة، لها وحدها، وهي وحدها ـ من بين كل إخوتها وأترابها ـ ستحمل اليوم إلى الكُتَّاب هذا المصحف العظيم، في حين سيظل الباقون يحملون مصاحف خفيفة الوزن، بها جزء عم والحروف الأبجدية فقط، أغلفتها باهتة، ولا نقوش بها، ولا يُكتب على غلافها "القرآن الكريم"، يُكتب "جزء عم" فقط. احتضنت نورة مصحفها الجديد، ومضت إلى الكُتَّاب.
الطريق طويلة ومتربة، ونورة تشد المصحف بقوة إلى صدرها، لم تركض لئلا يصل الغبار إلى المصحف، لم تدلع لسانها لحسون المجنون، لم تتوقف لتغمس رجليها في الفلج وتلعب بالماء، لم تمر على بيت زينة العمياء لتقودها إلى الكُتَّاب وتأكل الملبس من يد جدها، لم تتأمل دكة دكان عامر حيث اصطفت الحلويات المترفعة بالأغلفة الزاهية، كانت تمشي كأنها لا تمشي، كأن موجاً هيناً تحتها يدفعها، وشيء واحد على هذا العالم يشغلها: "التيمينة".
بلال ابن الجيران كان عنده مصحف كبير ـ لم يكن من الحج ولا مزخرفاً كمصحف نورة ـ ولكنه ختمه، فأعلن المعلم سرور ذلك على الملأ، وأقاموا التيمينة لبلال.
دخلت نورة إلى الكُتَّاب، تلفتت حولها مزهوة لكن أحداً لم يلاحظ مصحفها الجديد، على يمين القاعة الواسعة المفروشة بالحصر تحلقت البنات في حلقات يقرأن بأصوات رفيعة وهن يهززن رؤوسهن وأبدانهن الصغيرة، وعلى اليسار تبعثر الصبيان بين قارئ وصانع نبل، والمعلم سرور في الوسط متكئ على خيزرانته منكفئ الرأس لم ينتظم شخيره بعد.
ظلت نورة واقفة لبرهة تنقل بصرها فيهم، تخيلت كل هؤلاء الصبية والبنات يخرجون من الكُتَّاب، جماعات متماسكة الأيدي، وتسير هي والمعلم سرور في المقدمة، في حين يهتف أكبرهم:
"هذا أخوكم قد كتب وقد قرا وفاق في الخط على كل الورى"
فيهتف الصبية والبنات: "آمين .. آمين .." ، وينطلقون في جميع الحواري وتحت كل النوافذ مرددين هتافاتهم فرحاً بها .. جلست نورة متربعة على الأرض، وضعت المصحف الجديد في حجرها، وأسندت رأسها إلى الجدار، مجموعة من الصبية أرسلهم المعلم سرور إلى بيت حمد يدخلون الآن منتشين بالانتصار وهم يجرونه من يديه ورجليه، ضحكت نورة، كلما هرب حمد من الكُتَّاب أرسل المعلم الصبية خلفه، وسقاه من خيزرانته الرفيعة.
تخيلت نورة دشداشتها الجديدة يوم تيمينتها، وشعرها المسرح في ضفائر كثيرة، ويد المعلم سرور الكبيرة تقبض على يدها، والصبي يهتف:
"يا ربنا يا قاسم الأرزاق الواحد الفرد العزيز الباقي
هذا الصبي ارزقه علم الأثر وهب له حفظ جميع السور
وهب له الفقه والفصاحة والزهد والعفة والسماحة .."
فيرتفع الهدير من خلفهم: "آمين.. آمين"، وسيمطون كلمة آمين حتى يحدجهم المعلم سرور بنظراته، فيتضاحكون ويعبرون بوابة القلعة الخشبية، ويمرقون بين الضواحي، ويغافلون المعلم ليتراشوا بماء الفلج، وينعطفون بعد مركاض الخيل متجهين إلى بيت نورة .. دقت نورة رأسها في الجدار جذلاً، ولكنها رغبت أن تغير كلمة "هذا الصبي" إلى "هذه البنت"، وتحسست شعرها حيث ستنساب الضفائر، فانتبهت فجأة إلى أنَّ شمسة بجانبها، حذرتها أمها مراراً من الجلوس بجانب شمسة لأنَّ رأسها مليئة بالقمل، وسيسحبها في النهاية إلى البحر، ويغرقها.
لم تكن نورة قد رأت البحر، وتخيلت أنْ تذهب إليه مسحوبة من القمل كما يسحب الصبيان حمد، فضحكت.
سيقيم أبوها مأدبة ضخمة، ويذبح خرافاً كثيرة من المزرعة، وستوزع أمها الحلوى على الجميع بعد أنْ يرجعوا من التيمينة، ويمروا بهتافاتهم على كل أنحاء البلد، سيلتهمون الحلويات بلا حساب، وستلعب البنات بالزعفران الذي تضعه أم نورة على وجوههن، ويدعكنه في خدود بعضهن البعض كما فعلن في تيمينة بلال، ولن تنتبه أمها إلى جانب من تجلس نورة، ضحكت نورة بحبور وهي تدندن: "هذه تيمينة مبينة فائقة رائعة حسينة .."
"أنت .. يا من تضحكين"
رأت المعلم سرور واقفا أمامها، بكامل يقظته وغضبه..
أشار لها بخيزرانته: "والمصحف مقفل أيضا؟ .. أنتِ هنا للعب والضحك؟ .. لم لا تفتحي المصحف وتقرأي؟ .."، وبيدٍ قوية أبعد ظهرها عن الجدار، فسقط المصحف الجديد من حجرها، وأحست بلسعات الخيزرانة المتتابعة.




ــــــــــــــــــــــــــ
* (مجموعة صبي على السطح ، للأديبة العمانية جوخة الحارثي، نشر دار أزمنة، الأردن، 2007م ).