2007/11/25

مصايب الشيخ مصايب



مصايب الشيخ مصايب


النشر الورقي : مجلة الفنون الشعبية ، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، العددان 74 / 75 ، القاهرة : ابريل - سبتمبر 2007




مصايب الشيخ مصايب
( حكايات مرحة )
جمع وتدوين
علاء الدين رمضان




* المقدمة
خلَّف الشيخ مصايب الجهني عدداً كبيراً من النوادر التي لقيت رواجاً كبيراً وانتشاراً واسعاً ، ولما يزل يتردد صداها بين مختلف طوائف المجتمع في جهينة إلى الآن ، لقد كان الشيخ مصايب يحترف المنادمة والمتابعة لذوي السلطان والرياسة وكبار رجالات الدولة والحكام وإقطاعيي المجتمع ، فذاع صيته واشتهر حتى صار علماً في بيئته وعليها ولها ؛ فما من أحد في جهينة أو القرى المحيطة بها يجهل شخصية الشيخ مصايب ، حتى وإن لم يرو عنه شيئاً ولم يحفظ من نوادره طرفاً ، فكلهم يتمثل لهذا الرجل في وجدانه صورة ذات قسمات خاصة وملامح مميزة وهيئة دالة على ذلك المرح الذائع ، فشهرة الشيخ مصايب الآن في مطلع الألفية الثالثة – بعد مرور ما يربو على قرن من الزمن على حكاياته - ترجع لكونه قد صار شخصية بِيئِيَّة دالة على قوة المجتمع الذي ينتسب إليه وقدرته على المواجهة المعنوية ، كما كان مجتمع جهينة أكثر قدرة على المواجهة المادية ؛ فمن العجيب أن تلك البيئة أنجبت - في عصر واحد - الشيخ الخضيري ( مصايب )، ومصطفى هاشم ( خط الصعيد )؛ الحدة والعنف معاً ، حدة اللين وعنف القسوة ، لذلك فإن الشيخ مصايب شخصية بيئية رأت فيها جهينة مُتَمِّماً لصورة القوة لديها ؛ فقد رأت جهينة أنها بيئة متفوقة سادت بالقسوة واللين ؛ فمصطفى هاشم أخضع أموال ورقاب الإقطاعيين، وكذلك هزأ الخضيري مصايب منهم وسخر، ونال منهم بالفعل والقول، وظلوا بحاجة إليه يدافع عنهم ويدفع ما لا سبيل إلى دفعه إلا باللسان لا السطوة والسلطان .
ونقف من خلال تلك الحكايات على مظاهر الحياة الخاصة للصفوة ، ومنهج فكرهم وأسلوب حياتهم ، إذ تعرض عدداً من سمات المجتمع الذي نشأت فيه وكان ساحة لصولاتها وجولاتها ؛ وتُعد حكايات الشيخ مصايب الجهني وجهاً من تلك الأوجه المميزة ؛ من الحكاية الشفهية، تلك الحكايات التي من بينها حكايات عاشت عبر الأجيال وسافرت عبر القارات مع اختلافات قَلَّت أو كَثُـرت؛ للحد الذي صرنا معه نمتلك لقصة واحدة من قصص ذلك التراث مثل سندريلا Cinderella ما يربو على خمسمائة إصدار ؛ من رادوبيس في مصر القديمة وحتى أشبوتيل Ashputel الروسية ؛ فهناك عدد كبير من الحكايات الشفاهية تم تدوينها ، وهناك عدد أكبـر من الحكايات التي ظلت متناقلة دون تسجيل ، ومنها حكايات سقطت من الذاكرة ولم يعد يذكرها أحد ؛ من هنا تأتي أهمية الجمع الميداني والتدوين في حقل التراث الشفاهي
.
وأشير هنا إلى أنني تصرفت في تدوين النص الأصلي في ضوء ما جمعته من روايات متعددة للحكاية الواحدة، وما تسمح به الدراسات الفولكلورية في هذا الباب ، في سياق أساليب التدوين اللهجي المتعارف عليها . كما حرصت في عمليات الجمع الميداني على اختيار دليل من أهل جهينة واستفتحت الحديث بيننا بالسؤال عن مصايب وعائلته ومن بقي منهم على قيد الحياة، حتى وصلت إلى ابن الشيخ مصايب ويدعى الحاج محمد عبد الرزاق الخضيري، وفي عمليات الجمع عنيت بتغيير الدليل في كل مرحلة وعدم السماح له بالتدخل في سير عمليات التسجيل التي نتج عنها هذه النسخة المدونة من حكايات الشيخ مصايب الجهني .

· الرواة :
أهل جهينة وعنيبس والطليحات والنـزات السبع وبعض أهل طهطا وبلصفورة وجرجا، وبعض أهل القاهرة ممن لهم جذور جُهَيْنِيَّة، ولكن مع الأسف الشديد انقرض الرواة الأصليون وضاع الصوت الرئيس الحامل لروايات ونوادر الشيخ مصايب وما بقي منه إلا الصدى، ولذلك نجد أن حكايات ونوادر هي الشائعة بينما غيرها ليس من اليسير العثور عليه إلا بعد لأي أو مصادفة، وعدد كبير من تلك الروايات استحال تسجيلها إلا بالحيلة والتعمُّل .

** وأذكر من الرواة الذين اعتمد عليهم البحث :

وقد تنوعت أماكن الجمع الميداني ، وذلك في مرحلتين رئيستين عني بهما الباحث ؛ أولاهما مرحلة الجمع والتعقب العشوائي للشيخ مصايب الجهني وأخباره ، وأخراهما مرحلة الجمع الموجه ؛ ففي مرحلة الجمع العشوائي استقى الباحث عدداً من المعارف والأخبار والنوادر التي كانت قاعدة أولية لسير البحث ومسيرته ، في تلك المرحلة اتسع النطاق الجغرافي ليشمل: حدائق حلوان والمعادي والقلعة ( القاهرة: يونية 2003 )؛ ثم بني غازي ومصراته ( ليبيا : يوليو 2003 )؛ ثم ساحل طهطا، سوهاج، جرجا ( سوهاج: أغسطس 2003 )؛ أما المرحلة الأخرى فهي المرحلة الموجهة، وقد حصر الباحث جمعه في تلك المرحلة على أماكن بعينها، هي: جهينة، والطليحات،وطهطا في محافظة سوهاج بصعيد مصر، وهي مرحلة التسجيل والتحليل.

** جدول أماكن الجمع :


* الراوي الرئيس :
الحاج محمد عبد الرزاق الخضيري محمد أحمد غزالي ( 73 سنة ) ، يعمل وكيلاً للمحامي خلف علي أبو درب في جهينة الغربية ، واسمه ( محمد عبد الرزاق ) اسم مركب ، وهو الابن الأكبر للشيخ الخضيري مصايب ، وقد حضر الراوي خمسة أجيال : جده عم جده ، وجده والد أبيه ، وجيل أبيه ، وجيله ، ثم جيل أبنائه . عمل محمد عبد الرزاق في قسم الحفر والزنكوغراف بجريدة المصري ، وقد كان مشغولاً بعمله عن متابعة رحلات والده ومشاركته مجالسه ومنتدياته وحفلاته ، لكنه كان أحياناً يحضر حفلة أم كلثوم في الأزبكية بسبب شهرة والده هناك ، وقد حضر مثلاً أغنية "ولد الهدى" وغيرها . وقد كان الراوي دقيقاً متعاوناً فيما يتعلق بحياة والده، لكنه آثر الحياد فيما يخص حكاياته وادعى أن الناس تجيدها أكثر منه، وأن الجيل الذي كان يحفظها قد انقرض ،أي جيل إذا لم يكن الجيل الناقل الحافظ هو جيله نفسه؟. لكن يبدو لي أن لديه موانع شرعية وأيديولوجية تمنعه عن الخوض في ذلك لأن في الروايات عدد كبير من الحكايات قد يُصرف إلى معانٍ تنافي الجدة والخلق الرفيع.

الرصد الميداني
من حكايات
الخضيري مصايب

(1)
أنطح
** الراوي : طارق القاضي ( 31 سنة ) طهطا

* قاعـد على الجسـر في جهينه والعمده الحويج معـدِّي . فالعمده رمى عليه السلام . في رميته السلام رفـع العمده راسه من تحت لفوق . فراح الشيخ مصايب هـز راسه ناحية اكتافه يمين وشمال . وراح العمده ورجع . لما رجع لقيه لسه قاعد مكانه . ع يقول له العمده إيه : أنا ع أرمي عليك السلام يا مصايب وانت ما اتردش عليَّ ؟ قال له أنا ما رديتش ؟ . دا إنت أصلاً مرميتش السـلام . إنت ع تسألني أنطح ؟ قلت لك لا .. متنطحشي .

(2)
التكاية هيّ الفرق
** الراوي : جمال فهمي سالم عبود ( 45 سنة ) الطليحات .

* مصايب ليه نوادر كتيره جداً . ومن ضمن : كان يجتمع مع واحد من البحيره . مره كان الشيخ مصايب قاعد مع البحراوي على دكة وبينهم تِكَّاية ، فحب البحراوي يجر نهاش مصايب . حب يغلبوا فـ ع يقول له . ويسأله : يا شيخ مصايب تقدر تقول لي إيه الفرق ما بينك وما بين الحمار . قال له التكاية دي . فقصد الراجل البحيري . فقال له خلاص آمنت بإنك غلبتني .

(3)
[ تلعب ] في الحيطه : تنور
** الراوي : حسام عبد المقصود ( 28 سنة ) الطليحات

* نزل فندق في مصر وكانت المرَّة الأولى اللي يتعامل فيها مع الكهرباء أضاء له خادم الفندق الغرفة ، وعندما أتى الليل أراد أن يطفئ نور المصباح لينام فأخذ ينفخ فيه مراراً والمصباح لا ينطفئ، فاستنجد بالخادم فعلمه الخادم كيف يطفئ وكيف ينير، فلما عاد إلى جهينة سألوه عن أعجب ما رأى في مصر، قال مصايب :"[ تلعب في ] الحيطه تنور ، [ تلعب في ] الحيطه تطفي " .
هـوه ما قلش كده؛ قال بدل كلمة ( تلعب ) دي لفظ خارج زي اللي في نكتـة (انظر : حكاية تحية الملك ، النسخة المطبوعة ) .

(4)
جهينة فين
** الراوي : حسام عبد المقصود ( 28 سنة ) الطليحات .

في مجلس من المجالس اللي كان بِيْـرُوحها الشيخ مصايب ، كان في الجيزة ، وفي القعدة واحد من الحاضرين سأله ، يعني بيهزأ منه ، عايز يضحك عليه ، قال له : " انت منين يا شيخ مصايب ؟ " قصده يِتَّـرْيَقْ على اللي واكل الجو من حواليه ده ؛ قال له مصايب : " أنا من جهينة " ، قوم الراجل سأله : " وفين دي من جنينة الحيوانات " ، قال له مصايب : من بعد الجيزة ومقبل . بره السور " . فاتغير لون الراجل وذهل كده من الرد ، لكن بان عليه الزعل قوي لما ناس من القاعدين فهمتها وضحكوا . العبارة في إن مصايب كان يقصد إن من الجيزة وجوه همه جنينة الحيوانات واللي بره همه اللي مش حيوانات . البحراوي كان عايز يوقعوا راح هوه الشيخ مصايب اللي وقعه في شر أعماله .

(5)
( كلثوميات )
** الراوي : الخضيري محمد غزالي ( 35 سنة ) جهينة الغربية .

أما بالنسبة لأم كلثوم . فليه نوادر ياما معاها .كانت تبعت له تذكرة كل حفلة تعملها . كانت بتعمل كل شهر هيه حفلة . فقعـدت شهرين تلاته نسيت مصايب . ما بعتتلوش . فقال دي ما بعتتليش ليه . المهم عملت حفلة فدفع التذكرة ودخل زي الجماهير العاديين . بس مرضيش يبص عليها . هوه مضايق منها طبعاً . فقال يا اخويا طب أعمل إيه . المهم راح مولع في حتة خلقه – قماشة قديمة . عملت شياط . زمان القماش كان لما اتولع فيه يعمل ريحة كده . فالجماهير اللي ع تبص على ام كلثوم سابوها وقعدوا يبصوا في هدومهم وبتاع. فراح رفع الخلقه المولعة وقال إيه يا نـاس دي هيه حتة شرموطه خلتكم تعملوا كده .

(6)
حمارتك راحت
** الراوي : الخضيري محمد غزالي ( 35 سنة ) جهينة الغربية .

في جنازة . كان واحد ميت . كان العمده حسين الحويج قاعد قام واحد نعس شخر . قام مصايب طلع من بره وقعد يلف . عمل نفسه ع يبص بره اكده . راح راجع وقال ياللي شخرت حمارتك راحت و ع اندوروا عليها . قام الراجل قال : يوه دا أنا شاحتها . قال له : اقعد خلاص اللي ع اندوروا عليه القيناه .
وتروى هذه النادرة كذلك بصور مختلفة ؛ وكل صورها تتعلق بالفعلة التي أتاها الرجل الضيف ، فبعض الروايات تقول : إن رجلاً ضحك في العزاء .

(7)
حوشوا الكلب
** الراوي : جمال فهمي سالم عبود ( 45 سنة ) الطليحات .

مره كان ماشي ورايح عند جماعة فـ لا مؤاخذه الكلاب هوهوت عليهم فـ ع يقول لهم : حوشوا يا ولاد الكلب . من غير ما يقصد الشتومة ولا حاجة قصده شريف . بيقولهم يعني حوشو الكلب .
وهناك رواية أكثر تحديداً : قيل إن الشيخ مصايب دخل بيت العمدة أحمد سالم في الطليحات فزمجر الكلب في وجهه في الوقت الذي خرج فيه نفر من أولاد العمدة لاستقباله ؛ فإذا به يقول : " حوشوا – ياولاد – الكلب " . فما كان من العمدة الجالس بالداخل إلا أن انفجر ضاحكاً .

(8)
دي الوالدة
** الراوي : عم عوض ( 75 سنة ) جهينة الغربية .

واحد من الباشوات بتوع زمان قل له إن جبت فيَّ نكته أديك ما اعرفش إيه . قل له طيب . ماشي . إلاَّ وجات - الباشا معاه – كلبه والده . دخلت عنده وعيالها وراها . قال له هيه دي الوالده يا باشا . قال له الباشا : إيوه هيّ دي . قال له : طيعوهم ولو كانوا كفار .

(9)
زرع الكبايات
** الراوي : عم عوض ( 75 سنة ) جهينة الغربية .

كان بيتحامق على واحد . قال له : الكبايات عندنا ع تتزرع . قال : ع تتزرع إزاي !؟ .قال له : عندنا ع نزرعوها . قال له طب الكبابي اللي محزوزة في النص دي تعملوا فيها إيه ؟ . قال له نعطشوها في التالته . يعني نزقوها مرتين تلاته ونيجي في الرابعة ما نزقوهاش فتروح تعمل حز في النص .

(10)
سمك قديم
** الراوي : حسام عبد المقصود ( 28 سنة ) الطليحات

* مرة كان في اسكندرية. في مطعم وبتاع المطعم جاب له سمك. جايب السمكة بارده وناشفة. يمسك السمكة ويجي حاططها جنب ودنه وينزلها على الطبق وييجي ساكت . يمسك السمكة تاني ويحطها جنب ودنه ويجي منزلها على الطبق وييجي ساكت. جه بتاع المطعم قال له ع تعمل إيه يا عم الشيخ. قال له: أنا معايا ولد عمي غرقان ليه تلات تيام وع أسألها عليه قالت لي أنا لي هنا هوه أسبوع في المطعم .

(11)
العتب ع السمع
** الراوي : حسام عبد المقصود ( 28 سنة ) الطليحات .

* كان الشيخ مصايب في أحد المجالس بالقاهرة ، فسأل رجلاً لم يعجبه حديثه ولا هيئته : من أي البلاد أنت ؟ فقال : من طنطا ، فردد الشيخ مصايب مستوثقاً : من طهطا ؟ . قال الرجل : لا ، من طنطا - شيء لله يا سيد يا بدوي - فقال مصايب : معلهش ، العتب ع السمع ، وإنا إن شاء الله لمهتدون ؛ وصمت .

هذه الحكاية تروى على أنها من أخباره في سياق طرفة أخرى الرجل فيها من المنصورة سمعها مصايب بهجورة ( وبهجورة من أعمال قنا )، ويروى فيها رد مصايب: " معلهش يا بني العتب ع السمع ربنا يهدينا " وتستأنف الحكاية مسيرتها بقوله " أهل المنصورة كلهم ولاد أسود ". ولم يوردها بصيغتها الأولى " وإنا إن شاء الله لمهتدون " إلا رجل كبير السن من أهل القلعة بالقاهرة، وقال أنه يقصد قول الله تعالى : " إن البقر تشابه علينا وإنا إن شاء الله لمهتدون " ، ثم رواها كذلك حسام عبد المقصود ، ويعضد رواية النادرة بهذه الصيغة : الصيغة الأخرى لها إذ أنها كذلك لا تخلو من إسقاط لكنه بذيء وسيء ومهين إذ أن أنثى الأسد هي اللبوءة ولفظة اللبؤة خففتها اللهجة المصرية واستخدمتها استخداماً مهينا للدلالة على المرأة المنحرفة ، وقد رويت حكاية أخرى (الحكاية 68 = ولاد ديابه وولاد أسود ) استخدم فيها مصايب الجزء البذيء من هذه الحكاية وجعل منه مفارقة بنى عليها حكاية وقعت بينه وبين أحد القاهريين في محاجة القاهري يدعي أن أهل الصعيد مجرمون والشيخ مصايب يدعي أن أهل القاهرة تستشري فيهم البلطجة .

(12)
عينوني ديك
** الراوي : حسام عبد المقصود ( 28 سنة ) الطليحات

* في آخر حياته اتعين في الحكومة اشتغل مؤذن في جامع سيدي العيني . فواحد بيسأله : اتعينت إيه يا شيخ مصايب . قال له عينوني ديك أقول كيك .

(13)
قصر في الجنة
** الراوي : حسام عبد المقصود ( 28 سنة ) الطليحات .

* أهداه الباشا الشندويلي قفطاناً دون جبة أو عمامة على جمع من الناس فدعا له بصوت جهوري ، قال : أعطاك الله قصراً في الجنة دون سقف أو سور وجعل الشمس فوقه وحواليه ؛ فضحك الشندويلي وأمر له بعمامة وقفطان .

(14)
( كلثوميات )
** الراوي : الحاج محمد عبد الرزاق الخضيري ( 73 سنة ) جهينة الغربية .

في حكاية له مع أم كلثوم في طحطا ( اللفظ اللهجي لاسم مدينة طهطا ). هنا هُهْ أقول لكم عليها برضه . بس دي اسمعتها : أم كلثوم في بدايتها كانت تروح البلاد والمحافظات تعمل حفلات ، أيام م كانت بتلبس لامؤاخذه العقال والبالطو ، ومن ضمن كانت في طحطا قهوة اسمها قهوة أبو غزالة ، كانت على مستوى زمان ، دِلْوَكْ قاعدة بس ما ... ؛ جنب المركز من غربه . كانت زمان أيام القطن أما كان في عز عهده ، كانت التجار والناس والمشايخ والعمد يروحوا يقعدوا عليها . راح أبو غزالة جاب أم كلثوم . وفيه نادي شرق المركز عملوا الليلة فيه ، جنب مركز طحطا بالظبط بين جامع عبد العال والمركز . بيت رئيس المدينة دلوك . مأمور المركز دعا المشايخ والعمد في البلاد كلها وطلعوا إعانات ، التذكرة بخمسين قرش وكانت الخمسين قرش حكاية ، فالمشايخ كانوا يلموا من كل بيت تعريفة ويروحوا يدفعوا التذاكر .
المهم : لَمَّا راحت المشايخ والعمد كلها لابسة عمم وطربوش ، قوم العمة عاملة زي لوزة القطن ، فلما طلعت هيَّ على التخت ، على المنصة بتاعت المسرح ورايحة تغني ، بصت لقيت العمم كلها بيضة ، قوم قالت : " القطن فتش " ، قام هوّه الشيخ مصايب قالها :" ربنا يكفيه شر الدودة ". دي النكتة اللي عرّفت مصايب بأم كلثوم .

(15)
الكاكوله
** الراوي : الخضيري محمد غزالي ( 35 سنة ) جهينة الغربية .

* عطاه الباشا الشندويلي جبة ففرشها على الطرابيزة قدامه وكتب على ظهرها أشهد أن لا إله إلا الله ، فقالوا له : ليه ما كملتش التشهد ؟ قال : أصلى الجِبَّة دي من قبل البعثة .

(16)
كل واحد جمعة
** الراوي : الحاج محمد عبد الرزاق الخضيري ( 73 سنة ) جهينة الغربية.

أنا حضرته مره واحده والمره دي كانت في دوار الدقايشه في نزة الدقيشية . كان المرحوم قبيصي مرسي جايب الشيخ محمود صارو من طحطا والشيخ صديق المنشاوي . وعاملين ليله بتاعت ليلة مولد النبي . ف من ضمن في أثناء الحفلة الشيخ صديق قرا أول عُشْر : " الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة " . قرا يعني في سورة النور وصدق . في أثناء ما صدق الشيخ صديق قام واحد من عنيبس اسمه جمعه ، خد بالك من الاسم كان اسمه جمعه . كان زميل الشيخ خضيري مصايب في الأزهر ونُكَتي زَيُّه . قام جمعه ده قال يا جماعة . اسمعوا . فيه واحد اسمه الشيخ خضيري مصايب من جهينة . مراته ماتت . قام راح قعد يملطش ويبكي تحت رجليها جات الناس : يا راجل دا انت راجل طيب وحافظ كلام ربنا . ومش عارف إيه وبتاع . قام واحد زهق منه قال له طب الميت ع يعيطوا .. . يعني لمؤاخذه هوه جه تحت رجليها واخد بالك و ع يعيط هوه . قالوا طب الميت ع يعيطوا فوق راسه مش تحت رجليه . قال له أنا ع اعيط على النص اللي كان نافعني .

الغرض السامر كله قعد يضحك . وكانت نكته خدت رجه يعني . قام واحد اسمه عبد الرحيم البيه من نزه . قال له : آه .. أهه جمعه .. أهو من عنيبس عاد ده . الغرض قال له روِّق يا شيخ عبد الرحيم . قام مصايب رد قال :
يا اخوانا أيام السلطة خدوا الناس راحت الحرب مع الأتراك والإنجليز وفيه ناس جات وفيه ناس محدش يعرفها راحت فين . ففيه واحد كان متجوز وحده وبعدين اتأخر ما جاش . ولد فلان جه وولد فلان جه وولد فلان جه . وولد فلان ماجاش . وْهُوَّه من ضمن الناس اللي قالوا مجاش . الغرض لما قطعوا الشك إني هُوَّه مش هييجي قام واحد خطب المره بْتَاعْتُه . وهُوَّهْ ع يكتب المأذون طبّْ اللي كان في السلطه . ده قعد يقول مرتي – والمأذون كان كتب – وده قعد يقول مرتي . يبقى مرت مين دلوكتي ؟ ده عنده عقد رسمي وده عنده عقد رسمي . قام القاضي قال : أنا هـ أحكم لكم عاد . قال : انت ع تقول مرتي وهوه ع يقول مرتي . قال : كل واحد منكم ( يعاشر ) جمعه .

(17)
الكلاب
** الراوي : خالد أبو النور قطبي ( 35 سنة ) جهينة الغربية .

* حاول راجل من أهل المنيا في مجلس ببيت العمده عمر عبد الآخر في طهطا أن ينال من الشيخ مصايب ، فقال له : رحنا لبيت العمدة ( حسين الحويج ) في جهينة ، فاستقبلتنا الكلاب من أول البلد لغاية دوار العمدة . فقال الشيخ مصايب : لا .. كلاب إيه انت جيت في النهار والكلاب مقيلة ، أما لو جيتها في الليل هتلاقي شي ما لوشي آخر متعرفش فيه أبوك من أخوك .

وفي رواية تانية كان عند بيت عبد الآخر في طهطا . على حكاية برضه الكلبة دي . وبعدين قال له : يا شيخ لو جبت فينا نكت تاخد عشرةْ جنيه . قال له : عشرة جنيه ! . قال له : طيب ماشي . وبعدين جو وهمه فاعدين قال له : الوالدة دي يا شيخ محمد ؟! ( يقصد العمدة محمد عبد الآخر )، قال له محمد عبد الآخر : دي مخلفة اتنين لما يقوموا على بعض ما تعرفش أبوك من أخوك .

(18)
ليَّ عليك مرة
** الراوي : حامد عثمان ( 40 سنة ) جــرجا .

* دخل دورة مياه عمومية في قصر النيل وعندما خرج طلب منه العامل خمسة مليمات ، فأعطاه عشرة وتركه ومضى ، فناداه العامل لك باقي خمسة مليمات ، فقال له يبقالي عندكم مَرَّة " .

(19)
المدمس حاضر والصبح قضا
** الراوي : الحاج محمد عبد الرزاق الخضيري ( 73 سنة ) جهينة الغربية.

من ضمن الكلام بتاعه . بيقولك الطلبة لما جه الشيخ المراغي ودخَّل تعديلات في الأزهر قوم ع يتكلموا وبيقولوا طلبة الأزهر ومش عارف إيه والرسمي والقسم العام وحاجات زي كده . قوم ع يقارن بين الطلبة بتاعت زمان بتوع العمدان وطلبة اليوم اللي هُمَّه في النظام الجديد . قال له : طلبة اليوم بياخدوا المدمس حاضر والصبح قضا . يعني .. بتوع العمدان كانوا يصلوا الفجر حاضر . لكن طلبة اليوم بياخدوا المدمس حاضر يروح يجيب المدمس الأول ياكله حاضر وبعد كده - واخد بالك – يبقى يصلي الصبح قضا . يعني معنى الكلام التعليم حصل فيه ارتجاج لأن شيخ العمود كان بيعلم الإنسان اللي قدامه على أساس العلم إنما النظام الجديد بقي التعليم علشان خاطر يطلع يلقى وظيفة. ده معنى كلمته المدمس حاضر والصبح قضا.

(20)
مصر زمانها غرقت
** الراوي : حسام عبد المقصود ( 28 سنة ) الطليحات .

* كان في القاهرة وأثناء عودته دخل دورة المياه في محطة مصر ، وخلع لباسه وتهيأ للجلوس لقضاء الحاجة ، وبينما هو على هذه الحال أمسك بحبل يتدلى من صندوق حديدي واعتمد عليه فانجذب معه إلى أسفل واندفع ماء السيفون فخرج مهرولاً . ولما عاد إلى جهينة سأله الناس : " إزَّاي حال مصر ؟ " . قال مصايب :
" مصر زمانها غرقت واللباس عايم فوقيها " .

(56)
موسى راح وحده
** الراوي : طارق القاضي ( 31 سنة ) طهطا .

* يقولك إن مصايب كان كل خميس يروح طهطا عند بيت عبد الآخر . عند العمده محمد عبد الآخر . يقولك كان كل يوم خميس يروح طحطا يقعد في السوق شْوَيَّة وبعد كده يروح يقعد عند العمدة عبد الآخر ده . فكان يغديه العمدة محمد عبد الآخر ويقضي معاه النهار ، وف يوم راح له ومعاه ناس من جهينة ، سألوا على العمده ، قال العمده للخدام قول لهم العمده مش قاعد ، فمشى عمنا مصايب مع الناس وصلهم لأول الطريق كده وجه راجع . فلقي العمده واقف في التراسينه . فقال له يا عمده دا موسى لما راح لربنا ربنا قابله . وانت بتنكر نفسك مننا ، قال له العمده : موسى قال لأهله امكثوا في السوق وراح وحده مخدلوش معاه تمانين نفر .

(22)
هديه وعطيه
** الراوي : حسام عبد المقصود ( 28 سنة ) الطليحات

* مأمور المركز جاله اتنين اتعينوا عنده جديد واحد اسمه هديه واحد اسمه عطيه . كانوا متقمعين كده ومتنـزهين وما عاطينش حد معاهم . المهم المأمور متغاظ منهم وعايز حد يهزقهم . فبعت لمصايب وقال له . فجه مصايب لابس لبس نزيه ومتوضب على الآخر وراح قاعد وسط الاتنين دول وراح حاطط رجل على رجل . كان لابس جزمة فرده بيضه وفرده بني . فقعدوا يضحكوا عليه قوي . فقال لهم ع تتضحكوا على إيه . فبيقولوا له حد يلبس جزمه كل فرده شكل . قال لهم معلهش أنا أصلي أقرع ونزهي وجزمتي دي مرقعه فرده هديه وفرده عطيه .

(23)
واحــدة باقيالك
** الراوي : ( من محفوظات الباحث )

مرة فيه راجل تقل على الشيخ صديق لما كان عند الشيخ مصايب . يقول له والنبي يا عم الشيخ تقرا كذا ، والنبي تقرا كذا ، وكل ما يخلص الشيخ صديق عُشْر داك التاني يقول له والنبي قول كذا وكذا ، المهم راح مصايب قال للراجل كده انت طلبت من الشيخ صديق يقرا لك القرآن كله وما فاضلشي حاجة تسمعها هنا إلا آية وحدة ، إقرا له يا شيخ صديق : " إني أنذرتكم بواحدة أن تقوموا ". فضحك كل اللي موجودين في المجلس . يعني هوه يقصد إنه يمشيه يعني قال قوم من هنا خالص .

(24)
يوم العيد
** الراوي : حسام عبد المقصود ( 28 سنة ) الطليحات .

* كان الباشا الشندويلي في كل عيد يعمل وليمه لحبايبه واصحابه ، وفي سنه من السنين قصد الباشا الشندويلي الحج ، فكان في وداعه الناس كلها من اصحابه ومعارفه من الأعيان وغيرهم ، وكان من بينهم الشيخ مصايب ، فلما هُمَّ جُه ماشيين جه الشيخ مصايب ومسك وتبَّت في إيد الباشا الشندويلي من شباك العربية ، وقـال له : " والنبي يا باشا ما تفضل هناك لغاية العيد علشان وليمة يوم العيد ربنا ما يقطع لك عاده ". فكل الواقفين فطسوا على روحهم من الضحك .

· تعليق ختامي :

هذه أربع وعشرون حكاية من نوادر الشيخ مصايب، تمثل جزءاً من النسخة المدونة في تلك الحكايات التي قمت بجمعها ودراستها وتحليلها، متمنياً أن يتاح لي نشر أجزاء أخرى من الحكايات ومن الدراسة التحليلية ؛ آملاً أن أكون قد حرثت بذلك البحث – ما نشر منه وما لم ينشر – أرضاً منذورة للجدب والعفاء، فالحكايات الشعبية أشبه ببئر الماء، إذا استُهْتِنَ هتن وإذا تُرك جف؛ وما حسبي في ذلك إلا أنني كنت صادق النية ماضي العزم حثيث الطلب، فإن أجدتُ فمشاعل كثيرة أضاءت الطريق وأيادٍ ودودة ترفقت وأعانت، وإن أسأت فمن نفسي، وأود ففي الختام أن أستثير الانتباه إلى أنه على الرغم من نسبة هذا العمل لي، إلا أنه ما كان ليتشكل وينمو ويكتمل بغير ذلك التعاون الصادق والمساعدة المخلصة التي قدمها لي عدد كبير ممن عنوا بموضوع البحث في محيطه، من أدلاء ورواة، ومن غير هؤلاء وأولئك من أهل جهينة الذين لم يزاالوا يتصفون بصفات عربية بكر .

2007/11/16

تفاحة البدوي اليابانية
رؤية: علاء الدين رمضان
ورقة ارتجالية مقدمة إلى احتفالية محمود البدوي
بقصر ثقافة أحمد بهاء الدين بأسيوط
الاثنين 22 من مارس 2004
محمود البدوي راهب القصة القصيرة المصرية، زاهدها الذي أعطاها كل جوارحه ولم يسع من وراء ما أعطى إلى ما يعود عليه بالنفع، فزهد في البحث عن مردود إبداعه عليه من عناية الدارسين والأدباء، فكانت له اليد العليا في ما لحق به من ظلم، وإجحاف وإغماط حق؛ إلا أن الباطل لجلج والحق أبلج فيزول الباطل وجواهر الأشياء تبقى، ومن هـذا المنطلـق زالت أغطية الباطل عن جواهر الحق فخرجت للحياة الأدبية كنوز إبداعية رائدة مثلما هـو الحال مع محمود البدوي ويحيى حقي ومن لف لفهما، إذ بدأت الدراسات الأدبية مؤخراً في درس آثار هؤلاء الرواد الذين أثروا الحياة الأدبية بكنوز طمرتها الأساليب الموجهة في التناول والدرس، حتى في الصروح العلمية، وما إن تخلصت الدراسات النقدية من الدوافع الموجهة وما كانت تكبلها به من ربقة حتمية الاتجاه، سواء كان ذلك أيديولوجيا سياسيا، أ م عقدياً أم غير ذلك، وعلى أيسر الفرضيات : التوجه اللغوي البحت أو القُح في التناول .
إن محمود البدوي ابن قرية بني زيد الأكراد مركز أبنوب بمحافظة أسيوط، الذي ولد سنة 1908، قد ملأ الدنيا تغريدًا وشدوًا وسفرًا وانطلاقاً وبدأ يقيد أعماله الإبداعيـة في مجموعات منذ عام 1935 إذ بدأ بمجموعة الرحيل وظل يقدم للمكتبة العربية عددًا ثرياً من الأعمال الكثيرة كمّاً . الكبيرة كيفا ً ومضمونا ً وعطاءً و إبداعا ً فقدم علامات مهمة في طريق القصة الفنية القصيرة في الأدب العربي مثل رجل وفندق الدانوب والذئاب الجائعة والعربـة الأخيرة وحدث ذات ليلة والعذراء والليل والزلة الأولى وعذراء ووحش وغرفة على السطح وصقر الليل ومساء الخميس والسفينة الذهبية والباب الآخر وصورة في جدار … حتى أنهى مكتبته الإبداعية بمجموعة السكاكين عام 1985 وتوفي رحمه الله في الثاني عشر من فبراير عام1986م.

والمتأمل في عناوين المجموعات تتجلى له واقعية محمود البدوي أشبه بتجسيد مرئـي ووجداني ورمزي لأحداثه كل ذلك في مزيج واحد تغلفه رومانسية شفافة ليس في أعمالـه مباشرة الواقع وسطحية الواقعية ولا تهافت الرومانسية ومعاظلتها ولا الافتعال الفج غير المبرر؛ بل إنه يحمل عيناً وقلماً أشبه بالكاميرا والفيلم مع لمسات مونتاجية تزيد من فاعلية الحدث الذي يقدمه في إنكار تام للذات التي قد تكون هي أبرز ما في التجربة، بل قد تكون الذات هي البطل الرئيس للقصة إلا أن القاص الرائد بما يحمله من خبرة فنية قديرة يستطيع توجيـه أحداثه توجيهاً يفرض على التجربة المعادل الموضوعي الذي قد يحول الذاتية إلى إيحاء جمعـي يصير معه البطل الفرد الذات معادلاً لثقافة كاملة، لنستعيد معاً شهادة موجزة لمحمود البدوي حول مادته الأدبية التي يستقي منها موضوعات قصصه، يقول البدوي: " أكتب من واقع الحياة .. وأبطال قصصي التقيت بهم وعشت معهم وأحببتهم جميعاً .. ولا توجـد شخصـية
خرافية أو خيالية في قصصي قط، وقد يولد اللقاء العابر قصة كما تولد المعايشة الطويلة .. ومن هذه اللقاءات تأتي قصة القصة .. " هذه الشهادة صدر بها البدوي عددً ا من المقـالات القصصية الشائكة التي سماها قصة القصة، فدل بتلك المقالات على أمر مهم جدًا هو ما كان يعاني منه المجتمع الأدبي من عشوائية، بل وما يزال يعج بهذه العشوائية إذ كان لزاما ً علينـا منا قشة البدوي عندما كان بين ظهرانينا فيما يقدمه من " قصص القصـص" أو بمعـنى أدق وأكثر وضوحاً ما وراء القصة أو المادة الخام للمادة الفنية قبل أن يدخل إلى النسـق مقـص الرقيب؛ كان علينا أن نستهتن نبعه ونستزيد دره منذ يناير عام1984 عندما بدأ نشر تلك المقالات شديدة الخصوصية والتي يطمح النقاد كثيراً في الحصول على أمثالها لتسهيل عمليـة الغوص في الأعمال الأدبية لأدبائنا الكبار، وقد كان ليحيى حقي تجربة سابقة علـى تجربـة البدوي وهي المعروفة باسم خليها على الله، ثم كناسة الدكان .. لقد خضع محمود البدوي لعدد من العوامل التي أدت دورًا مهماً في تنشئته الفكريـة والأدبية أول هذه العوامل البيئة التي نشأ فيها، إذ كان للقرية وتقاليدها الأثر الكبير في بعض أعماله بل تحول هذا الدور إلى دور رئيس يحرك الأحداث : يبنيها ويوجهها؛ ثم بعد ذلك نجد عاملاً آخر هو ارتباطه بالمدرسة الحديثة أو على الأدق منجزات المدرسة الحديثة، إذ نشأ في ظل أفكار مدرستي السفور والفجر وهما مدرستان عنيتا بالقصة عناية كبيرة، و قد نهل البدوي منهما بعد أن قُعِّدت اتجاهاتهما واستقرت رؤاهما وآتت أُكلها في أعمال محمود تيمور ومحمود عزي وغيرهما، وقد شجعت هذه الاتجاهات قراءة الآداب الأجنبية ونقلـها والتـأثر بها وبتجاربها، ويبدو أن البدوي تأثر بها لدرجة أكبر مما كان متوقعاً فتحول من مجـرد متلـق للثقافات إلى رحالة يبحث عن تجاربه خار ج حدوده الإقليمية فسافر شرقاً وغرباً من اليابـان شرقاًُ إلى أمريكا غرباً إلى أطراف الاتحاد السوفييتي السابق شمالاً …؛ فكانت المؤثرات المحيطة به في حياته الاجتماعية والعملية هي العامل الثالث في منظومة عوامل تنشئته الفكرية والأدبية فتأثر بالسياسة والأيديولوجيات المعاصرة لتجربته كما تأثر بالسفر والترحال من بلد إلى بلد، وكان السفر من أبرز التجارب التي استمد منها محمود البدوي أعماله، فكثـرت نماذجهـا وتنوعت بل إنني أرى أن أعماله التي تناولت تجارب مستقاة من مادة الترحال هي من أقوى أعماله واتجاهاته الفنية .
واسمحوا لي أن أقدم رؤية عاجلة أو متعجلة حول إحدى تلك التجارب وأسلوبه الفني
في معالجتها، وما تلك من بين كم ما لدينا من أعماله سوى قصة ( التفاحة ) التي أعدها مـن أقدر قصصه على عرض عدد من الاتجاهات الفنية والأسلوبية لدى محمود البدوي .
قصة التفاحة تحكي عن لقاء لم يشأ له البدوي أن يكون عابرًا بينه وبين فتاة يابانيـة في شارع جيترا بمدينة طوكيو، نجد أن الأديب يستخدم الأداة الأولى التي يجب علـى القـاص استخدامها أولاً حتى وإن تأخر ظهور دورها عند الصوغ، لقد استخدم العين الفاحصة التي تسجل كالكاميرا، ليس عنده مسكوت عنه داخل المشهد؛ فليلته كانت من ليالي السبت، سيره كان منفردًا، وكان في شارع جيترا، وجيترا في طوكيو، وطوكيـو متألقـة بمحالهـا التجارية، ومحالها التجارية لها أنوار زاهية، من حوله مارة يرتدون زياً مختلفاً وكلهم لهم أناقة بالغة، النساء من بين المارة لهن رونقاً ومنظرًا يستهوي النفس ويأخذ بمجامع القلب وهن في لباس الكومينو..، ويظل محمود البدوي على مثل هذه الشـاكلة حـتى يـدخل إلى أدق التفاصيل وكأنه قمر صناعي يبدأ بنظرة شاملة بؤرية حتى يصل إلى التفصـيل الأدق الـذي يقصد إليه، فقد استخر ج البدوي من بين النساء اللائي يرتدين الكومينو : فتاة يابانية إلا أنها لم تكن في زي ياباني، بل كانت ترتدي زياً أوروبياً وهنا ينقلب الحال لدى المتلقي الخـاص، فمحمود البدوي ممتع جدًا إذا كان مجرد قاص راصد بلا قضية، تتوالى صـوره بتفاصـيلها وكأن قارئها يعيش في قلب الأحداث وكأن الأحداثَ حلم ممتع، حتى وإن كانت قاسـية، فقلم محمود البدوي يسبغ عليها جمالا ً وفتنة . أقول إن هذه هي القاعدة العامة لتلقي أعمـال محمود البدوي التي يشترك فيها عامة المتلقين، غير أن الأمر يختلف تمامـاً لـدى القـارئ المتخصص والدارس المتعمق إذ يجد كل منهم وراء الصورة الغفل الزاهية قضية فكرية كبرى إذ تحمل الجملة الواحدة ما لاتحمله كتب علوم الاجتماع والنفس والتاريخ، فهو مثلاً رأى فتاته ثلاث مرات متتاليات صدفة في أماكن مختلفة، تقف بهيئة واحـدة ليصـورها مصـور فوتوغرافي، فعرف أنها موديل تصوير؛ ثم فوجئ بها للمرة الرابعة أو المصادفة الرابعة نادلة في مقهى، ويبدو أ نها من فتيات الجيشيا الشعبيات وهن يرتزقن من الأعمال المختلفـة أدناهـا التصوير والعمل بوصفهن نادلات، وأعلاها البغاء .
دخل البدوي إلى مقهى صغير بعد جهد التجول في المدينة الضخمة، بالمقهى سبع فتيات حسان يخدمن الرواد، ويقول :
" وانحنت أمامي حسناء تسأ لني في أدب ورقة عما أطلب.. ، ولقد عرفتها في الحـال
كانت هي الفتاة التي شاهدتها منذ ساعة تتصور في الطريق وقلت لها وأنا أنظـر في السـواد المتألق في عينيها :
- زجاجة صغيرة من البيرة .
- لا يوجد هنا بيرة .
- لا توجد بيرة ؟!
- إطلاقاً إنه مقهى كما تر ى، فيه قهوة وشاي وعصير فواكه، ويمكن أن تطلب وجبة
خفيفة .
- إذن سأشرب قهوة ..
- حالاً .."
وهناك مشهد آخر يجب عرضه وضمه إلى المشهد السابق قبل تأملهما معاً والحديث عن معطياتهما الفكرية الخاصة المضمرة ..
" كان ثمن الفنجان 60 يناً .. فأعطيتها قطعة بمائة ين ولما ردت الباقي قلت لهـا إنـه
بقشيش .. قالت برقة وقد احمر خداها : - إننا لا نأخذ بقشيشاً ؟.
- لماذا ؟ ..
- قالت : هذه تقاليد القهوة !!
وإذا أضفنا إلى المشهدين السابقين مشهدًا آخر يتعلق بالنادلة، إذ سألها :
- هل كانت الصورة كتذكار ؟
- قالت أبدًا .. إن المصور يبيعها لمجلات أمريكية .. فوج .. ولوك ..
- وكم تأخذين عن الصورة ..
- قالت : خمسمائة ين،
فتعجب قائلاً :
- خمسمائة ين، إنه يبيعها بمئات الجنيهات ..
- قالت : إن العملية لم تستغرق أكثر من نصف ساعة، والخمسمائة ين لا بأس بهـا لفتاة مثلي ..
هنا يتضح الفارق الكبير بين العقليتين : الشخصية اليابانية، والشخصية العربية، فهناك فجوة كبيرة في التفكير وأسلوب مواجهة الحياة : فهو مثلاً يتناقض مـع عقيدتـه وتقاليـده فيطلب البيرة باستمرار وفي أي مكان وأي وقت وهي ترتدي ملابس أوروبية للتصوير، وهنا تماثل في التمرد على التقاليد الخاصة لكل منهما، أما الفارق بين الشخصيتين ففي اليابان فارق بين المقهى والمشرب، كما أن هناك رؤية واضـحة للبذل والعائد، فبينما بطل القصة نظر إلى ما سيأخذه المصور من وراء لقطاته، نظرت الفتاة اليابانية إلى قيمة ما ستبذله، ويقابل ذلك أيضاً أننا نمنح دون تفكير وليس هذا سـخاء بـل ترهل وعدم مسئولية وسوء تقدير بينما في اليابان يرفضون أن يأخذوا دون وجه حق ..
ننتقل أيضاً إلى مقارنة عقلية أخرى، فبينما هو يشعر عندما أمسك بيديها أنه ليس في الوجود كله ما يمكن أن يفصله عنها .. ثم عندما وصلا إلى الفندق وجد نفسه يسير بهـا إلى المصعد ومنه إلى غرفته، وقد جلب معه تفاحاً ليأكلاه معاً.." خلعت الفتاة سترتها وأخذت تأكل من التفاحة وهو يقضم قضمة ويقبل فمها مرة .. هنا عشوائية في الأخـذ، بـل لي أن أسميها حيوانية في الرغبة لم تظهر وتتجلى إلا عندما يطرح الكاتب كعادته النقيض في التفكير والأسلوب والأداء بعد أن أكلت تفاحتها قامت إلى الحمام لتتزين وتتخفف من بعض ملابسها .. كل شيء لدى أصحاب تلك العقلية يتم بمعيارية دقيقة، يقابل ذلك عشوائية وانـدفاع لدى العقلية العربية، فعندما دخلت إلى الحمام ألقى بالتفاح المتبقي في سلة المهملات كـي ينشغل بقضم تفاحة أخرى لكنها من لحم ودم، فلما خرجت ولم تجد التفاح سألت عنه ولمـا علمت أنه ألقاه في السلة لقنته درساً جديدًا إذ أخرجتها وغلفتها في ورقة .. ليبدأ التحول في الشخصية المقابلة، وكانت أولى علامات التحول إحساسه بأن فقرها إلى التفاحة التي حملتها إلى والدتها التي لم تذقه قط، أحس بلسعة سوط مزق لحمه وذابت عواطفه الجياشـة تأسـى عليها، فبدأ ينظر نظرة أخرى إلى تلك الفتاة التي تزينت وخففت كثيرًا من لباسها .. فلمـا أخبرها بأنه لن يخلع سترته بل سيصحبها إلى أمها، ضغطت على يـده، فشـعر بـالحرارة الإنسانية للمرة الأولى، الحرارة الخالصة للنفس البشرية، الحرارة المتدفقة من أعماق القلب، وكأن ميزانه البشري وعقليته قد اعتدلا وأشير هنا إلى ولوع البدوي بـالجنس واسـتخدامه بوصفه تيمة في أعماله، بعضه مقبول وجله مردود عليه ..، هذه ليست رؤية لأعمال محمود البدوي بل تطواف سريع ومشاركة عجلى أدعو الله أن يتيح لي من الوقت والجهد ما أستطيع معه وبه تدارس أعماله بشكل عملي علمي .. ولكم التحية ..
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
alauddineg@yahoo.com

صبي على السطح

جوخة الحارثي كاتبة عُمَانية مميزة، لأعمالها صبغة فنية وفكرية شديدة الخصوصية. تنوعت مؤلفاتها ما بين الرواية والقصة القصيرة والقصة القصيرة جداً، لكنها ظلت تحمل الطروحات الوجدانية للأديبة، تلك الطروحات الممثلة دائماً في الذكرى والفراق . الناقد علاء الدين رمضان*، يقدم قراءته للمجموعة القصصية التي نشرتها الحارثي أخيراً بعنوان "صبي على السطح".


النشر الورقي : مجلة القافلة، العدد الخامس، المجلد 56، ص 78 - 85 ؛ شعبان - رمضان 1428هـ / سبتمبر - أكتوبر 2007م



جوخة الحارثي في "صبي على السطح"
الهروب من الانكسار إلى الرمز
ــــــــــــــــــــــــــــــ
علاء الدين رمضان
ــــــــــــــــــــــــــــــ


تعد مجموعة ( صبي على السطح ) للأديبة جوخة الحارثي، من المجموعات القصصية المميزة، التي صدرت مؤخراً، لتضيف إلى ثقافتنا العربية المعاصرة بعداً إبداعياً جديراً بالاهتمام والتقدير، لأسباب منها الصدق وفطرية الطرح وبراءة الرؤية، إلى جانب قدرة الكاتبة على الصوغ الفني البارع وأسلوبها في تسجيل التجربة وإدارة الواقع الجمالي للنص ووقائعه بطريقة تدفع القارئ للتفاعل الوجداني دون روية أو اختيار، وكأنه صاحب التجربة الأم أو طرفها الفاعل .
وعلى مدار ثمان عشرة قصة قصيرة وخمس قصص قصيرة جداً، كانت الكاتبة قادرة على طرح رؤى متزنة في نفسيتها، حتى وإن كانت تلك التجربة تعبر عن طبيعة منحرفة أو غير متوازنة بذاتها، وهذا بدوره يكشف عما يمكن تسميته بالجانب الاحترافي لدى الكاتبة العُمَانية جوخة الحارثي.


· أساليبها المستخدمة :

ولعل من أبرز السمات الفنية لدى المؤلفة، تنوع استخداماتها الأسلوبية؛ إذ استخدمت في مجموعتها ( صبي على السطح ) أسلوب الرؤية من الخارج – وهو أسلوب نادر نسبياً – في بعض قصصها حيث اكتفت بوصف ما يُرى وما يُسمع دون تجاوز ذلك إلى وعي الشخصية ( مثل العرس، ومشوار لسيتي سنتر ).




تقول في قصة العرس: " سلومة جالسة على كرسيها، ظهرها مستند بكامله على المسند، ورأسها لا بالمرفوع ولا بالمطأطئ، يداها على حجرها بالخواتم الذهبية والفضية والأساور والخرز، وقدماها ثابتتان على الأرض بخلاخيلهما، وعلى فمها شبه ابتسامة، كأن فيها من الرضا والمباركة شيئا، أما نظرتها فثابتة، ممتدة على مدى أفقي، لا تكاد ترمش، في رنو مسترخٍ على العروس".

كذلك استخدمت أسلوب الرؤية المرافقة لتعرض بوساطته عالم النص وبيئته من منظور ذاتي داخلي لشخصية بعينها – قد تكون الكاتبة نفسها – دون أن يكون لها وجود موضوعي محايد خارج وعيها، ( مثل جُل قصص المجموعة وفي رأسها قصة "صبي على السطح" التي احتشدت بالشحنات الانفعالية ).




هذا الأسلوب في معالجة التجربة هو ما تسميه الناقدة البلجيكية فرانسواز كيون: الواقعية الفينومينولوجية – الظاهراتية، حيث يعرف السارد أكثر مما تعرفه الشخصيات، لكنه لا يطرح هذه المعرفة أو يفسر بوساطتها خط الأحداث أو الأحداث نفسها أو يبرر بها أفعال الشخصيات أو اتجاه المواقف؛ قبل أن تصل الشخصيات ذاتها إلى ذلك ( مثل قصة "الخيول الراكضة" ). ويدلنا على هذه المعرفة المثالية – وربما المطلقة للراوي – عدد من المظاهر أبرزها عند جوخة الحارثي الجمل الاعتراضية والتعليق أو التفسير الخارجي وإضاءة السياق والاستطراد والملاحظة وهي كلها من المميزات اللغوية عند الكاتبة؛ تقول في قصة (العرس): كأنها قد خلقت لذلك الكرسي، وطوال حياتها لم تعش في غير هذا المكان، كأن سلومة قد وجدت هناك منذ الأزل فوجودها متصل وسيتصل أبداً". وفي قصة ( على الكرسي الخشبي في الحديقة ... جلسنا ) تقول : " كأن الكرسي لن يتوازن إلا بجلوسنا هكذا ".

إذ تعد الملاحظة والاستطراد والجمل الاعتراضية نقاط كشف وإضاءة وتنوير تضيف للنص ولأبعاده الدلالية والأدائية .

أما الأسلوب الثالث الذي استخدمته الكاتبة بسعة؛ فهو أسلوب الرؤية الشمولية ( أو السارد ذو الخلفية المتكاملة الواضحة )، وهو نمط كلاسيكي السارد فيه يملك معرفة مطلقة لا يعوقها عائق عن التدفق خلال الصوغ، وهو أكبر معرفة من الشخصية نفسها، ويستخدم هذا الأسلوب ضمير الغائب؛ تقول الكاتبة في قصة التيمينة : "سيقيم أبوها مأدبة ضخمة، ويذبح خرافا كثيرة من المزرعة، وستوزع أمها الحلوى على الجميع بعد أن يرجعوا من التيمينة، ويمروا بهتافاتهم على كل أنحاء البلد، سيلتهمون الحلويات بلا حساب، وستلعب البنات بالزعفران الذي تضعه أم نورة على وجوههن، ويدعكنه في خدود بعضهن البعض كما فعلن في تيمينة بلال، ولن تنتبه أمها إلى جانب من تجلس نورة، ضحكت نورة بحبور وهي تدندن : هذه تيمينة مبينة فائقة رائعة حسينة.."؛ فالكاتبة هنا ذات وعي كلي متكامل داخليا وخارجياً، فهي تعرف تفاصيل الأحداث الخارجية أكثر من الشخصيات كما تعلم ببواطن ما يدور في وجداناتهم، فنلاحظ استخدامها لسين التسويف وأفعال الاستقبال، كما أنها تدري ببواطن الأمور كما تعرف ظاهرها ومستقبلها؛ فنجد أن نورة عندما ضحكت.. ضحكت بحبور؛ وكذلك في قصة الخيول الراكضة كانت الراوية على وعي مطلق بشخصية ناصر العبد الذي لم يعد يفهم المتغيرات المتلاحقة من حوله : " ناصر العبد لم يعد يفهم، كان يرى الحياة ساكنة، كان يلمس الحياة ساكنة، ولكنه عرف، بطريقة ما، غامضة، أنها ليست ساكنة كما تبدو" .




والكاتبة بذلك استطاعت أن تستغرق ثلاثة أساليب مميزة في نتاج نصها : ما بين السارد الملاحظ أو الراصد للأحداث، والراوي المشارك فيها، والراوي العاكس لها؛ من خلال مراتب، توزعت بين المستويات الأدائية للسارد ومرتبته في النص، ما بين سارد كلي المعرفة أو سارد ذو وجهة نظر، وسارد موضوعي محايد .


· شعرية السرد :
يتميز أسلوب الكاتبة بسمات شعرية مميزة وواضحة، ربما تتجلى عندما تحاول الكشف عن نفسيات شخصياتها، لأن ذلك يكون في الغالب بوساطة لغة شفافة ذات بعد شعري وحضور لغوي واعٍ، قد يجنح إلى الغنائية، تقول مثلاً : " كانت ضحكتها موجة مشاكسة لم ترجع للبحر".

وقد تطور هذا الأسلوب الشاعري في بعض القصص ليصل إلى دور المحرك الرئيس للنص كما هو الحال في قصة ( ماء غير آسن ) حيث ترى عائشة الكلمات عندما تهجر الشفاه المنهكة متصاعدة، ولا يراها سواها، وكذلك في قصة ( الأشياء )، حيث تقول الكاتبة في منولوج خارجي على لسان الشخصية الرئيسة للنص : " آه أيتها السعادة .. عرفتك من رنين صوتك حينما رحلتِ .."؛ فالكاتبة تنظر إلى اللغة بوصفها كيان مستقل أحياناً، لا بوصفها مجرد وسيط دلالي لتوصيل التجربة، وفي سبيل ذلك تسبغ عليها قيماً تجسيدية، وقد تصفها بصفات توحي بأنسنتها، كما أنها تنظر أحياناً إلى اللغة بوصفها بنية مجردة؛ لكنها أيضاً تسبغ عليها استقلالية الوجود، وتسند إليها الأفعال والتحولات، تقول في ( ماء غير آسن ) : " وترتعش ( عودي ) أمام عيني عائشة، ثم تضطرب بقوة، فتركض لتلحق بها، فتفر، فتركض، حتى إذا ما سقطت إعياء كانت ( عودي ) عوداً خشنَ الأوتار، قد اختبأ في الفضاء"، فبين لفظتي "عودي" و "عود" تناسب جناسي في الدلالة، ومظهري في التجسيد .

والكلمات تسهم عندها في تحويل بنية النص واتجاه الدلالة، في ( ماء غير آسن )، تنفي البنية ما يحاول النص طرحه من قيم سلبية تشين سيرة أم عائشة، وكذلك تعبير " الكلمات البيضاء "، يدرأ عنها سوء الظن الذي حاول النص إثباته بقوة، وربما انجلت غمرة النص بينما يظل الغموض عالقاً بذهن المتلقي الذي لا تسعفه أية دلالات لتكوين حكم قاطع على شخصية أم عائشة، وربما السبب الرئيس في ذلك يعود لأسلوب استخدام الكلمات، وإحساس المؤلفة بها .

ومن أبرز أنماط الاستخدام الدلالي للغة لدى الكاتبة؛ الارتقاء بالغرائز عند الحاجة إلى الإحالة إليها؛ فالكاتبة ذات لغة وأسلوب على درجة عالية من الرقي، تحترم الفكرة التي يلوح بها النص وتسبغ عليها ذلك الوقار، حتى وإن كانت إحالة إلى غريزة تصل بين يدي كُتَّاب آخرين إلى الابتذال والإسفاف، والأمثلة على ذلك كثيرة؛ فمثلاً قصة ( المحبوب ) من المجموعة، تحتشد بالإيحاءات والإحالات الجنسية التي تشي بعدم تحقق العلاقة الزوجية، ترسخها عبارات من قبيل: " إلا أن قبضته قد صدئت على المفتاح دون أن تهتدي لموضع القفل"، و: " العجز عن امتلاك المحبوب".

ومن ذلك أيضاً قولها في قصة ( صبي على السطح ): "توتر جسد الصبي وتصلبت كل عضلة فيه وهو يرى خصلاتها تلتصق بجبينها ورقبتها". وهو إيحاء جنسي واضح لكنه غير مبتذل ولا مخل، يرتكز على البعد الإشاري والطاقة الإيحائية الكامنة في لغة المؤلفة وقدرتها على توظيف مفرداتها من ناحية، ومن ناحية أخرى عمق الإحساس بالتجربة الفنية وأساليب نتاجها .

· والتكرار من سمات الأسلوب
أما التكرار فيعد من السمات الأسلوبية لدى الكاتبة، وهي سمات ذات بعد نفسي بالدرجة الأولى؛ لأن اللفظ لن يحمل دلالته عند تكراره للمرة الثانية؛ إنما سيحمل ظلاً إشارياً، بينما يقل المعنى المحمول بوساطته بوصفه معرفة، فلا يقدم جديداً في المستوى المعجمي أو الدلالي للبنية المفردة، لكنه عندئذ يفتح سيلاً من الدلالات الوجدانية والنفسية، ويلعب أدواراً في مجالات بلاغية ونحوية أخرى كالتأكيد؛ تقول الكاتبة في قصة ( المحبوب ) : "وهمست.. همست لي"؛ فالتكرار هنا يوحي بالانفعال، والتأكيد على اتجاه الهمس إليه يزيد الانفعال أهمية لتخصيصه وقصره على نفسه .

ومن أوجه استخدام التكرار عند الكاتبة: التكرار ذو المعطيات الدلالية الضمنية التي تسهم في دعم التصاعد الدرامي للحدث داخل القصة، ولا يقوم دونه البناء النسقي والدلالي للتجربة الفنية، مثل جملة " ندف الغيم الأبيض"، التي كررتها الكاتبة في القصة الرابعة ( في الساعة الأولى ) من قصصها القصيرة جداً؛ حيث وردت الجملة في درج النص وآخره

· التصوير النفسي للواقع :
وللمؤلفة قدرة مؤكدة على استخدام الأبعاد النفسية والوجدانية؛ تضاهئ قدرتها على صوغ تجاربها بأساليب لغوية وفنية بارعة، ومن وسائلها لتحقيق هذه البراعة التصوير وتجسيد الحالات الوجدانية داخل صورة مؤثرة، تتراوح ما بين الرومانسي والدرامي، فتحمل في رومانسيتها المتلقي إلى آفاق من المتعة والتأثر الوجداني، بينما تضعه دراميتها في بوتقة ساخنة من التطهير النفسي، فالمؤلفة تكتب بعض نصوصها وكأنها أغنية رومانسية حالمة وزاخرة بالمشاعر والشحنات النفسية، ومن تلك النصوص: ( بستان الزيتون )، و( جنان )، و( حبة الفاصوليا)..، كما تكتب قصصاً أخرى بمنطوق درامي يشتعل واقعه بالانكسار والضغوط والإحساس بالعجز لحد التحول والتنازل عن السمات الشخصية المهمة كما في ( فراشة البحر )، حيث تغرق الشخصية الرئيسة في الهروب النفسي الذي تولد عنه تحول مادي كناية عن الإغراق في الهروب الوجداني أيضاً، والتقوقع داخل عالمها الخاص؛ بعيداً عن صراعات الحياة والحب والمادة والاختلاس والعوز .

وقد كرست الكاتبة بنية النقيض لتجعل منها مدار الرؤية في قصتها ( نقط خضراء في فستان أبلة فتحية )، إذ تعتمد القصة على بنية التناقض التي شاعت في كل تفاصيلها، فالمدرسة التي يجب أن تكون أماً رؤوماً، تتحول إلى شخصية متسلطة ونفعية، واللون الأخضر المسالم يتحول إلى نوع من التلويح بالعقاب والقهر وحامل الرهبة، ثم فيما بعد العقاب نفسه ممثلاً في الخرطوم الأخضر .

· زمن النص :
تجيد الكاتبة اللعب على وتر مستويات المضي، فالماضي المستدعى بوساطة الاسترجاع قد يقيم له النص حاضراً هو في بنيته الكلية ماض بالنسبة للحظة النص؛ فهذا الماضي الذي تنظم الكاتبة عقده ماض مضيء، متداخل، لكنه يظل حاضراً في نفسها لوضوح أثره عليها وضوحاً سافراً حتى لحظة القص، مما جعل لزمن النص أبعاداً غاية في الثراء والعمق؛ فللتجربة زمن ولمطروحات النص زمن ولدلالته بُعد زمني ثالث، مغاير للبعدين الأولين .

ومن أبرز طبقات الاسترجاع ما عالجت به المؤلفة قصتها ( بستان الزيتون )، حيث أبرزت نمطين من أنماط الاسترجاع، هما :

- أولاً : الاسترجاع القريب؛ ويتمثل في الحلم : " في الحلم الذي لم يتوقف عن الهبوط في نومي / كان الورد لا يلون قدميها ".
- ثانياً الاسترجاع البعيد؛ مثل استرجاع مشهد طعام الإخوة، كما أنه أيضاً نمط ينطوي على الشعور بالافتقاد .

وكذلك تعتمد قصة ( سأصلح القطار ) على الموقف الاستدعائي الاسترجاعي، الذي يختلط برغبة جامحة للامتزاج بالماضي والحرص على استبقائه بل والتفاعل معه، لكن هيهات فما الذي ستجنيه سارة بعد موتها من إصلاح القطار ؟؟...

والانفصال عن الماضي في مجموعة ( صبي على السطح ) بعامة، يصيب الشخصيات بالتوتر ويصيب التجربة بالانفعال وعدم الاتزان النفسي؛ فتحولات رجب العالي كانت لها علاقة مباشرة بذاكرته، وبنية الماضي داخلها؛ إذ اكتشف أن المرأة التي تزوجها وعاش معها كل هذه السنوات، منفصلة انفصالاً كلياً عن الماضي الذي يعيش فيه، أسيرا له؛ إذ " لا علاقة لكل ذلك بهذه المرأة المستسلمة له لأسباب تتعلق بالطبيعة الغريبة للبشر، التي لم تحاول الهرب إلى بيت أهلها ولم تحرمه من الطفلة التي أصبحت في المدرسة "؛ إنما له علاقة بعدم إحساسه بامتلاك النمط القديم الذي أسره، وظل يبحث عنه، لكنه لم يكن له واقع إلا في وهمه .

فنصوص جوخة الحارثي ذات أبعاد زمنية شديدة الخصوصية والحساسية، إذ تتعامل مع أنماط زمنية غير أنماط التجربة في الواقع، مما نشأ عنه افتراق فني بين زمن النص وزمن الواقع، كما في قصة ( نقط خضراء في فستان أبلة فتحية )، وقصة ( فراشة البحر )، وغيرهما .

أخيراً :
تحتشد المجموعة برؤى فنية وصوغية، جديرة بالتوقف إليها وملاحظة دورها في النص من قبيل : المكان والزمن واستخدام الضمائر وبناء الشخصيات، وأنماطها السالبة والموجبة، وعناية الكاتبة بالشخصية النموذج، وبناء العالم الخاص، واختلاق الواقع البديل، واستخدام المعادلات الخارجية الموضوعية والداخلية النفسية . والبنية الوجدانية والبعد النفسي للنص، بوصفه ذا حضور فاعل في بناء جل القصص، وفاعليته في السرد، وانعكاس ذلك حتى على الصوغ من خلال إبراز الشحنات النفسية التي تظهر في النصوص بوساطة الجمل القصيرة، على مستوى اللغة، والأوصاف ذات الأبعاد الإيحائية نفسياً . وكذلك الصور البيئية والتناص والاستعانة بالمأثورات والحكايات الشعبية المحلية والقومية والعالمية؛ أو التراثين الثابت ( الشعر ) والمتحرك ( الحكايات الشعبية والمأثورات النثرية )، واستخدام المفارقة والبنيات الشرطية ودورها في بناء التجربة، واستخدام أسلوب التدوير، وأسلوب التطور المرحلي، واستخدام الألوان والرمز، و التلاحق الوصفي في النصوص، وشيوع التوزع النفسي، والإحساس المفرط بالفقد وانتهاء الدور في كتاباتها . ثم أشير على نحو بارز إلى الاستخدام اللغوي والقصة اللغوية، وعتبات النص : العنوان والاستهلال والنهاية، ثم الناتج الدلالي .

وإجمالاً تعد أعمال جوخة الحارثي بيئة نموذجية للتناول النقدي، ولا أتصور أن دراسة واحدة قادرة على استغراق توصيف أبعاد هذا العالم وسبر أغواره، إنما تظل لبنة في بناء لا يدعم النص إلا كما يدعم الإطراءُ نجاحَ المجتهد .




*************
من قصص المجموعة :

* (1) - صبي على السطح
قصة : جوخة الحارثي

تلفت الصبي فلم ير أحدا وراءه، انسرب من سكة لأخرى، أسلمته الأزقة المظلمة للأشد إظلاما، اقترب من بيت العرس فدار حول نفسه فرحا بالأصوات والأنوار، التصق بالجدار سائرا على أطراف أصابعه مبتعدا عن مجلس الرجال المنفصل حيث فاحت روائح القهوة والحلوى الساخنة ،اجتاز الممر المترب بين المجلس والحوش، تناهت إلى سمعه أصوات ضحك النساء وغنائهن، فتأكد أن الحفلة تقام في الهواء الطلق، وبدأ في تسلق الجدار.
جسده الضئيل لا يشي بأعوامه الثلاثة عشر، أمسك طرف دشداشته بفمه وهو يتسلق الجدار بخفة، زحف بهدوء حتى سطح المخزن، دعس شيئا من الليمون المجفف هناك فلعن أصحاب الدار، ظل منبطحا على بطنه في حين أطل برأسه على حذر فلم ير غير منظر جزئي للحوش المضاء بمصابيح النيون، والمراوح المثبتة على الأرض بقواعد طويلة، وبعض النساء يخطرن حاملات صواني الطعام أو مجامر البخور أو مراش ماء الورد. الأغاني تملؤه، يعرف أنهن يرقصن الآن ولكنه لا يتمكن من الرؤية، تأفف، تلفت، ثم زحف بتهور من سطح المخزن إلى سطح المطبخ الأوطأ، ضاعت ضجة قفزته في الأصوات المختلطة، أصبحت حلقة الرقص على بعد أمتار قليلة، عيناه الضيقتان تتنقلان بحرية بين أجساد البنات الراقصة ووجوههن الفرحة، يهز رقبته وكتفيه، ويدندن بصوت خافت، يرسل بصره إلى صواني العيش واللحم، يتلمظ، ثم يعود ليتابع الخصور المهتزة في الفساتين المطرزة، ينظر إلى الجهة المقابلة فلا يرى شيئا من العروس المغطاة بالكامل، يهز رأسه مع الصوت الشجي :"عند العصر يا الكوس هبي، والزين روح عني مغرب ، ومن بعده ما صفا لي محب.."، يرقصن فرادى ومجموعات ، كلما تعبت واحدة عادت لتقعد وقامت أخرى غيرها، الصبي يصفر بمرح تصفيرا خافتا متقطعا، ويطأطئ رأسه بين الفينة والأخرى حذرا من ضبطه في هذا الكون الجميل المحظور.
اتجهت إحدى البنات بخطوات راقصة إلى امرأة تجلس في طرف الحلقة وسحبتها من يدها، فألفت المرأة التي على حافة الثلاثين نفسها وسط الأجساد النحيلة الراقصة، أخذت تضبط إيقاعات جسدها الطويل المائل للامتلاء شيئا فشيئا، أبصرها الصبي في الحلقة بغتة فلم يبصر ما عداها، بهذا الفستان الفيروزي الطويل الأكمام، واللحاف اللامع، لم يرها وهي تنهض، لم يرها وهي تحاول ضبط إيقاعها، رآها وسط الحلقة، ترقص، مستغرقة في ذاتها، يداها مطوحتان في الهواء، وكل ذرة في جسدها منقادة بلا حول لإيقاع الغناء، أبصرها الصبي فحاول أن يتملاها، زحف على يديه وركبتيه غير آبه بأي عين طائشة قد تلمحه، أطل برأسه الصغير من فوق الحلقة تماما، بحث عن عينيها ولكنه لم يرهما، كانتا غائبتين، وكانت نهشة العشق الصاعقة قد أطبقت أنيابها على روح الصبي، وحدها كانت هناك، وحدها تهز كتفيها بهذا التناغم المدهش، وحدها يتمايل جذعها بلمح البصر، ووحدها دقت بأقدامها الأرض ففتت أصابعهما الحافية قلب الصبي، وحدها كانت، ووحدها ستظل إلى الأبد، والعالم كله قد تلاشى واضمحل ليبعث بين أصابع قدميها، مد الصبي جذعه للأمام، جف حلقه واللحاف يتزحزح عن رأسها شيئا فشيئا، انساب العرق من مفرق شعرها إلى رقبته، تفلتت الخصلات السوداء وتبعثرت، توتر جسد الصبي وتصلبت كل عضلة فيه وهو يرى خصلاتها تلتصق بجبينها ورقبتها، الرقبة الحليب، الرقبة الفضة، يلمع فيها العرق حتى يغسل حبة الخال أسفلها منحدرا إلى النحر، إلى النهر، تدور حول نفسها، تهبط متمايلة إلى الأرض، وترتفع مرتعشة إلى السماء، وحبة الخال تغتسل مرارا بخط العرق المتصل، الذهول يغيب الصبي كما يغيب عينيها، هتفت بنت بشجن:" شفت غزيل شارد بين الغزلان .."، حمل الغزال الصبي على ظهره وشردا معا، تسارعت إيقاعات المرأة وتثنت، كاد الصبي أن يبكي لمخالب الألم الصاعق من تموج جسدها ، جسدها الماء ، جسدها الموسيقى، جسدها النُّبل والنِّبال، جسدها الملتوي حول عنق الغزال، محكم الالتفاف عليه، خانقه، حتى ترنح متهاويا مسقطا الصبي عن ظهره محشورا بين جدارين موثقا بحبال العشق الغليظة.




* (2) - التيمينة
قصة : جوخة الحارثي

منذ تلك اللحظة التي أوقفتها أمها بمواجهتها عرفت البنت الصغيرة أنها لم تعد طفلة، وكان هذا هو أهم حدث في حياتها على الإطلاق.
وضعت الأم يدها اليسرى على كتف نورة النحيل، وناولتها باليمنى مصحفاً أخضر اللون. تلقت نورة المصحف بكلتا يديها، حدقت في نقوشه البديعة المتداخلة، وتتبعت حروف "القرآن الكريم" على غلافه، أسرها الخط الفاتن الذي كتبت به الكلمتان، تحسست الغلاف الصلب القوي، وارتعش بدنها بنشوة الفرح.
منذ هذه اللحظة ستحمل نورة معها إلى الكتَّاب هذا المصحف الكبير الذي جلبه عمها من الحج، كُتِب عليه: "طبع بالمدينة المنورة"، ونورة تحفظ نشيد "طلع البدر علينا"، وتهتز لذكرى المبعوث المهاجر إلى المدينة، وحين تصفحت المصحف مرتجفة كانت زخارفه الداخلية ملونة، وعظيمة، واجتاح الشوق نورة لتدخلها، وتعانقها، وتلتحف بتعريجاتها المدهشة، هذا المصحف الأخضر المهيب به كل السور، كل السور التي يعرفها الكبار ويحفظها المعلم "سرور"، وكل أسمائها موجودة في آخر المصحف: "البقرة .. آل عمران .. النساء .. المائدة .."، حتى السور الطوال التي تفتح باب الجنة يحويها هذا المصحف، وكل هذا لنورة، لها وحدها، وهي وحدها ـ من بين كل إخوتها وأترابها ـ ستحمل اليوم إلى الكُتَّاب هذا المصحف العظيم، في حين سيظل الباقون يحملون مصاحف خفيفة الوزن، بها جزء عم والحروف الأبجدية فقط، أغلفتها باهتة، ولا نقوش بها، ولا يُكتب على غلافها "القرآن الكريم"، يُكتب "جزء عم" فقط. احتضنت نورة مصحفها الجديد، ومضت إلى الكُتَّاب.
الطريق طويلة ومتربة، ونورة تشد المصحف بقوة إلى صدرها، لم تركض لئلا يصل الغبار إلى المصحف، لم تدلع لسانها لحسون المجنون، لم تتوقف لتغمس رجليها في الفلج وتلعب بالماء، لم تمر على بيت زينة العمياء لتقودها إلى الكُتَّاب وتأكل الملبس من يد جدها، لم تتأمل دكة دكان عامر حيث اصطفت الحلويات المترفعة بالأغلفة الزاهية، كانت تمشي كأنها لا تمشي، كأن موجاً هيناً تحتها يدفعها، وشيء واحد على هذا العالم يشغلها: "التيمينة".
بلال ابن الجيران كان عنده مصحف كبير ـ لم يكن من الحج ولا مزخرفاً كمصحف نورة ـ ولكنه ختمه، فأعلن المعلم سرور ذلك على الملأ، وأقاموا التيمينة لبلال.
دخلت نورة إلى الكُتَّاب، تلفتت حولها مزهوة لكن أحداً لم يلاحظ مصحفها الجديد، على يمين القاعة الواسعة المفروشة بالحصر تحلقت البنات في حلقات يقرأن بأصوات رفيعة وهن يهززن رؤوسهن وأبدانهن الصغيرة، وعلى اليسار تبعثر الصبيان بين قارئ وصانع نبل، والمعلم سرور في الوسط متكئ على خيزرانته منكفئ الرأس لم ينتظم شخيره بعد.
ظلت نورة واقفة لبرهة تنقل بصرها فيهم، تخيلت كل هؤلاء الصبية والبنات يخرجون من الكُتَّاب، جماعات متماسكة الأيدي، وتسير هي والمعلم سرور في المقدمة، في حين يهتف أكبرهم:
"هذا أخوكم قد كتب وقد قرا وفاق في الخط على كل الورى"
فيهتف الصبية والبنات: "آمين .. آمين .." ، وينطلقون في جميع الحواري وتحت كل النوافذ مرددين هتافاتهم فرحاً بها .. جلست نورة متربعة على الأرض، وضعت المصحف الجديد في حجرها، وأسندت رأسها إلى الجدار، مجموعة من الصبية أرسلهم المعلم سرور إلى بيت حمد يدخلون الآن منتشين بالانتصار وهم يجرونه من يديه ورجليه، ضحكت نورة، كلما هرب حمد من الكُتَّاب أرسل المعلم الصبية خلفه، وسقاه من خيزرانته الرفيعة.
تخيلت نورة دشداشتها الجديدة يوم تيمينتها، وشعرها المسرح في ضفائر كثيرة، ويد المعلم سرور الكبيرة تقبض على يدها، والصبي يهتف:
"يا ربنا يا قاسم الأرزاق الواحد الفرد العزيز الباقي
هذا الصبي ارزقه علم الأثر وهب له حفظ جميع السور
وهب له الفقه والفصاحة والزهد والعفة والسماحة .."
فيرتفع الهدير من خلفهم: "آمين.. آمين"، وسيمطون كلمة آمين حتى يحدجهم المعلم سرور بنظراته، فيتضاحكون ويعبرون بوابة القلعة الخشبية، ويمرقون بين الضواحي، ويغافلون المعلم ليتراشوا بماء الفلج، وينعطفون بعد مركاض الخيل متجهين إلى بيت نورة .. دقت نورة رأسها في الجدار جذلاً، ولكنها رغبت أن تغير كلمة "هذا الصبي" إلى "هذه البنت"، وتحسست شعرها حيث ستنساب الضفائر، فانتبهت فجأة إلى أنَّ شمسة بجانبها، حذرتها أمها مراراً من الجلوس بجانب شمسة لأنَّ رأسها مليئة بالقمل، وسيسحبها في النهاية إلى البحر، ويغرقها.
لم تكن نورة قد رأت البحر، وتخيلت أنْ تذهب إليه مسحوبة من القمل كما يسحب الصبيان حمد، فضحكت.
سيقيم أبوها مأدبة ضخمة، ويذبح خرافاً كثيرة من المزرعة، وستوزع أمها الحلوى على الجميع بعد أنْ يرجعوا من التيمينة، ويمروا بهتافاتهم على كل أنحاء البلد، سيلتهمون الحلويات بلا حساب، وستلعب البنات بالزعفران الذي تضعه أم نورة على وجوههن، ويدعكنه في خدود بعضهن البعض كما فعلن في تيمينة بلال، ولن تنتبه أمها إلى جانب من تجلس نورة، ضحكت نورة بحبور وهي تدندن: "هذه تيمينة مبينة فائقة رائعة حسينة .."
"أنت .. يا من تضحكين"
رأت المعلم سرور واقفا أمامها، بكامل يقظته وغضبه..
أشار لها بخيزرانته: "والمصحف مقفل أيضا؟ .. أنتِ هنا للعب والضحك؟ .. لم لا تفتحي المصحف وتقرأي؟ .."، وبيدٍ قوية أبعد ظهرها عن الجدار، فسقط المصحف الجديد من حجرها، وأحست بلسعات الخيزرانة المتتابعة.




ــــــــــــــــــــــــــ
* (مجموعة صبي على السطح ، للأديبة العمانية جوخة الحارثي، نشر دار أزمنة، الأردن، 2007م ).

أوجـورا هياكـونين إزشــــو



مجموعة
أوجـورا هياكـونين إزشــــو
100 قصيدة كتبها 100 شاعر
جمعها الشاعر والناقد الياباني : فوجيوارا نو سادائي ( تيكا )
ترجمة : علاء الدين رمضان
alauddineg@yahoo.com
*النشر الورقي :
كتاب : ديوان التانكا الياباني،
جمع فوجيوارا نوسادائي، ترجمة علاء الدين رمضان،
سلسلة كتاب إبداع، كتاب رقم 1،
الهيئة المصرية العامة للكتاب،
القاهرة : ربيع وصيف 2007م.



( 1 ) الإمبراطور تينشي :
قاس هو السقف ذو الغطاء المهيض

يحمي كوخ الحصاد

في حقل الأرز الخريفي ؛

وأكمامي مبللةً تنمو

بتقاطر الرطوبة من خلاله .

( 2 ) الإمبراطورة جيتو :

مرَّ الربيع

والصيف عاد مجدداً ؛

لنكتسي الحرير الأبيض ،

إنهم يقولون، مشرع للجفاف

على " جبل من عطر السماء ".


( 3 ) كاكينوموتو نو هيتومارو :

عجباً ، قدم مرْسُوم الأثر

كأنه ذيلِ ديك الجبلِ البري

مثل فرعِ مُقَوَّسِ يتَدلّى مهصوراً

فيسحب ليلاً طويلاً عبر هذا الامتداد ،

هل يجب عليّ أن أحرس الفراش وحيداً ؟


( 4 ) يامابي نو أكاهيتو :

عندما آخذُ الطّريقَ

إِلى ساحلِ ( تاجو )، أرى

وضعاً مثالياً للبياض

عند قمة جبل ( فيجي ) العالية

بفعل انجراف الثلج المتساقط .


( 5 ) سارومارو دايو :

في أعماقِ الجبلِ ،

وطأة المسير فوق أوراق النباتات القرمزية ،

تنادي ذكران الأيائل المُتَجوِّلةُ .

عندما اَسْمعُ بكاء الوحدة ،

حزيناً - هكذا حزيناً ! - يكون الخريف.


( 6 ) أوتومو نو ياكاموتشي :

إذا رأيتُ ذلك الجسر

ممتداً برحلاتِ طيور العقعق

عبر المدى

يصنع بياضاً بصقيع محكم ،

آنئذ يكون اللّيل تقريباً قد مضي .



( 7 ) آبي نو ناكامارو :

عندما أتأمل في البراح

نحو السماء الممتدة فسيحة الاتساع ،

أ يكون القمرُ هو نفسه

الذي أطل على جبل ( ميكاسا )

من أرض ( كاسوجا )؟


( 8 ) الراهب كيسين :

كوخي المتواضع

جنوب شرقي المدينة الكبيرة .

هكذا اَخترتُ أَنْ أعيش .

وعالمي الذي أَعِيشُ فيه

الناس قد سموه " جبل الكآبةِ " .



( 9 ) أونو نو كوماتشي :

لون الزّهرة

الآن يزوي بعيداً ،

بينما في تفاهة الأفكارِ

حياتي تمر بشكل عقيم ،

كأنني أُراقبُ السقوط الطّويلَ ينهمر .



( 10 ) سيميمارو :

حقاً، هذا هو الواقع

المسافرون الذين يَذْهبُون أو يقدمون

عبر طرقِ الفراقِ

- أصدقاء أو غرباء - عليهم جميعاً لقاء :

بوّابة " تل الالتقاء " .



( 11 ) أونو نو تاكامورا :

عبر البحرِ العريضِ

نحو جُزُره البعيدة العديدة

باخرتي تُبحرُ.

هل تحتشد هنا سفن الصيد

تُعَْلِنُ رحلتي إِلى العالمِ ؟ .


( 12 ) [ الراهب ] سوجو هينجو :

دع رياح السّماءِ!

تنفثُ خلال الغيومِ

وتحجب معابرهم ،

إذن لفترة ، حتى أستطيع حصر

هؤلاء الرسل في شكل بكر .



( 13 ) الإمبراطور يوزي :

من قمة ( تسوكوبا )

أصبحت المياه تتساقط

ما زال مينا ، يتدفق ممتلئاً :

هكذا نبت حبّي ليكون

مثل أعماق النهر الهادئة .



( 14 ) ميناموتو نو تورو :

مثلما يَسِمُ ( ميتشينوكو )

تشابك أوراق السرخس ،

بسببك

كذلك أَصْبَحتُ مشوشاً ؛

لكن حبّي لأجلك يَبْقى .



( 15 ) الإمبراطور كوكو :


إنه لأجل خاطرك

اَمْشي حقولاً في الرّبيعِ ،

أجمع أعشاباً خضراء ،

بينما أكمامَ أثوابي المعلقة

تصبح مبقعةً بالثلجِ المتساقط .



( 16 ) آريوارا نو يوكيهيرا :

مع أننا مفترقان ،

لو كنت على قمةِ جبل ( إنابا )

سوف أَسْمعَ صّوت

أشجارِ الصّنوبرِ تَنْمو هناك ،

ولسَوف أَرْجعُ ثانية إليك .



( 17 ) آريوارا نو ناريهيرا أسون :

أنا ما سمعت ذلك مطلقاً

- حتى عندما حملت لنا الحياة ذبذبة

من الأيامِ القديمةِ - :

أن ماء محاطاً بحمرة الخريف

كما هو في ينبوع ( تاتا ).



( 18 ) فوجيوارا نو توشيوكي :

الأمواج تَتجمّعُ

على شاطئِ خليجِ ( سومي )،

وفي اللّيلِ الحافل ،

عندما أذهب إليك في الأحلامِ ،

أتَخَفَّى من عيونِ الناسِ.


( 19 ) السيدة إيسي :

حتى لوقتِ قصير

كقطعة من الغاب

في مستنقعِ ( نانيوا )،

نحن لا يَجِبُ أَبداً أَنْ نتقابلَ ثانية :

هَلْ هذا ما كنت تطلبين إليَّ ؟.


( 20 ) الأمير موتويوشي :

في هذه الكآبةِ المُروعةِ

تمضي حياتي بلا معنى .

لذلك يَجِبُ أَنْ نلتقي الآن ،

حتى لو كلفني ذلك حياتي

في خليجِ ( نانيوا ).


( 21 ) [ الراهب ] سوزيني هوشي :

فقط لأنها قالت ،

" في أية لحظة سوف أجيء "؛

أنا انتظرتها

حتى قمرَ الفجر ،

في الشهر الطويل ، فقد تظهر .



( 22 ) بنيا لا ياسوهيد :

إنها بجوهرها

أوراق العشب والأشجار الخريفية

بالية ومتناثرة .

لذا هم يسمون هذه الريح الجبلية

الشخص الطائش ، المدمر .


( 23) أوي نو تشيساتو :

كما أطالعُ القمرَ ،
قامت أشياءُ لا تحصى في فكَري ،
وأفكاري حزينة ؛
بل ليست لي منفرداً ،
فذا وقت الخريفِ قَدْ أتى .


( 24) كان كي [ سوجاوارا نو ميتشيزان ] :

في الوقت الحاضر ،
منذ أن اجتذبني دون مقدمات ،
أشاهدْ ، جبل ( تاموك )!
هنا مُوَشّى بالأوراقِ الحمراءِ،
في رضوان اللهِ .


( 25) سانجو أودايجين [ فوجيوارا نو ساداكاتا ] :

لو أن اسمك كان حقيقياً ،
كرمة تتدلى من " تل التلاقي "
فما ثمة طريق هناك
نتوسله ، بلا بسالة الرّجالِ ،
هَلْ يُمكنُك أَنْ ترْسمهم إِلى جانبي ؟ .


( 26) تيشين كو [ فوجيوارا نو تاداهيرا ] :

لو أقام القيقب
على جبل أوجورا
يمكنه فقط أن يأسر القلوب ،
إنهم ينتظرون باشتياق
رحلة الإمبراطور .


( 27) شاناجون كانيسوكي [ فوجيوارا نو كايسوك ] :

على سهلِ ( ميكا )،
صاعداً في تَدَفُّقه..، وحراً في انطلاقه ،
ينبوع ( إزومي ).
أنا لست اَعْرفُ لو أننا التقينا :
فيم ، إذن ، اشتياقي إليها ؟ .


( 28 ) ميناموتو نو مونيوكي آسون :

وحشة الشتاءِ
تنمو في قرية جبلية
أعمق ما فيها ، عندما
يمضي الضِّيفانُ ، ويتركون العشب
يذبل : إنها أفكار مُمِضَّة .


( 29 ) أوشيكوشي نو ميتسوني :

إذا كَانَت هذه أمنيتي
لانتقيت اقحوانة بيضاء ؛
مرتبكة بالصّقيعِ
في وقتِ الخريفِ المبكّرِ ،
أنا صدفة ربما أقتطف الزّهرة .


( 30 ) ميبو نو تاداميني :

مثل قمرِ الصّباحِ،
كان حبي بلا شفقة فاتراً .
ومنذ افترقنا ،
لا شيء اَكْرهه كثيراً
مثلما أكره ضّوء النهار المبهر .


( 31 ) ساكانوي نو كورينوري :

عند انسحاق النهار ،
فقط كأنما قمر الصّباحِ
أضاء المشهدُ المعتم ،
يعم قرية ( يوشينو )
في ضباب الثلج المتساقط .



( 32 ) هاروميشي نو تسوراكي :

في جدول جبلي ،
هناك حاجز منشأ
شيدته الرياح النشطة .
عندما فقط تغادر القياقب
لا يقوى على التدفّق قُدُماً .


( 33 ) كي نو تومونوري :

في النور البهيج
من الشّمسِ أبدية الإشراق ،
في أيامِ الرّبيع ؛
لماذا بلا انقطاعٍ ، يستطيل الضجر ،
وتسقط زهور الكرز الوليدة عند التفتح ؟.


( 34 ) فوجيوارا نو أوكيكازي :

ما الذي يكون الآن هناك ،
في عُمري ( الذي يتقدم طاعناً )
هَلْ يُمكنُني أَنْ أدعو أصدقائي ؟.
حتى صنوبرات ( تاكاساجو )
لم تعد تملك عرضا لراحة طويلة .


( 35 ) كي نو تسورايوكي :

أعماق القلوب

في البشر لا يمكن أن تُسبرَ .

لكن في موطني

أزهار الخوخ لها الرائحة نفسها .

كما في السنوات التي مرَّت .


( 36 ) كيوهارا نو فوكايابو :

في ليلِ الصّيف ،
المساءَ ما زالَ يتراءى موغلاً ،
لكن الفجر انبلج .
لأية منطقة من الغيومِ
يجد القمرُ الطواف مكاناً ؟ .


( 37 ) فيونيؤيا نو أساياسو :

في حقولِ الخريفِ ،
عندما تعصف الرّيح الطائشة
فوق النّدى الأبيض الصّافي،
هكذا تنتثر الجواهر بلا حصر
بكل مكان مُبعثرة في أرجائها !



( 38 ) [ السيدة ] أوكون :

على الرغم من أنه هجرني ،
فلأجل نفسي أنا لا أعبأُ :
إنه أبرم وعداً ؛
وحياته ، تلك التي أقسم بها ،
كم هي تافهة جداً .


( 39 ) [ ميناموتو نو ] سانجي هيتوشي :

خيزران ينمو
خلال القصبات المتشابكة
مثل حبي المضمر :
لكنه فوق طاقة الاحتمال؛
لأنني مازلت أحبها جداً .


( 40 ) تايرا نو كانيموري :

على الرغم من أنني أتكتمه ،
ففي وجهي ، مازال يتجلى ،
ولعي ، وحبّي الخبيء .
وها هو الآن يسألني :
" أما من شيء يقلقك ؟ " .



( 41 ) ميبو نو تادامي :

إنني أعشق حقاً ،
لكن إشاعة حبّي
قَدْ ذاعت وانتشرت ،
بينما كان يجب ألا يعرف الناس
أنني قد بَدأتُ أحْبَّ .


( 42 ) كيوهارا نو موتوسوكي :

أكمامنا كانت مبللة بالدموع
كأنها وعود بأن حبنا –

سيدوم حتى

فوق صنوبرات جبل البوح ..
وأمواج المحيط المنكسرة .


( 43 ) [ فوجيوارا نو ] شاناجون أسوتادا :

إنني قَابلتُ حبّي .
عندما أقارن هذه اللحظة

بمشاعر الماضي ،
انفعالي الآن كأنني

مَا أحَببتُ قبلاً .

( 44 ) [ فوجيوارا نو ] شاناجون أسوتادا :

لو أنه يجب أن يحدث

أننا لن نلتقي أبداً ثانية ،
أنا لنْ أَشتكي ؛
فأنا أشك أننا : هي أو أنا

سوف نشعر أننا قد تُركنا وحيدين .


( 45 ) كينتوكو كو [ فوجيوارا نو كوريماسا ] :

لا ريب ، ما من أحد هناك
سوف ينبث بكلمة إشفاق ،

عن حبي المفقود .
الآن النهاية المناسبة لحماقتي

أن أرفل في العدم .


( 46 ) سوني نو يوشيتادا :

مثل ملاح
مبحر عبر مضيقِ ( يوورا )
مع موجته مضى ،
حيثما الحب العميق ،
أنا لا أعرف أضاليل الهدف .


( 47 ) [ الراهب ] آيكي هوشي :

إِلى الكوخ المتواضع ،
المكسو بكروم ذات أوراق كثيفة
في عزلته ،
يَجيءُ وقتُ الخريف الكئيب ؛
لكن هناك لا أحد يأتي .


( 48 ) ميناموتو نو شيجيوكي :

مثل موجة منقادة ،
تحطمها الرّياحُ العنيفةُ على صخرة ،
كذلك أنا : وحيد
ومحطم فوق الشاطئ ؛
أجتر ما قد كان.


( 49 ) أوناكاتومي نو يوشينوبو أسون :

مثل النّيران الحارسة
محفوظة عند المدخلِ الإمبراطوري ،
متوهجة خلال الليل ،
ومتبلدة في الرماد خلال النهار ،
إنه يتوهج الحب فيّ .


( 50 ) فوجيوارا نو يوشيتاكا :

لأجل خاطرك الجليل ،
مرة حياتي المتيمة نفسها
لم تكن تروق لي .
لكنها الآن رغبة قلبي
إنها رُبَما بشوق ، تبقى سنوات طولى .


( 51 ) فوجيوارا نو سانيكاتا آسون :

هكذا يمكن أن أخبرها ،
كم هو عنيف حبي لها ؟
سوف تفهم
أن الحبّ الذي أشعر به تجاهها
يتوهج مثل نبتة النار في ( إيبوكي ).


( 52 ) فوجيوارا نو ميشينوبو آسون :

مع أنني اَعْرف حقاً
أن اللّيل سَيَأتي ثانية
بعدما يطلع النهار ،
مازلت ، في الحقيقةِ ، اَكْرهُ مشاهدة
انبلاج ضوء الصّباح .


( 53 ) [ الأم ] أودايشو ميشيتسونا نو هاها :

نام الخَلِيُّون ،
خلال ساعات السهد ،
حتى انبلج ضوء النهار :
يُمكنُنا أَن نُُدركَ على أية حال
خواء ذلك الليل ؟.


( 54 ) [ الأم ] جيدو سانشي نو هاها :

لو أن تذكّري
في سنوات مقبلة – بالنسبة له -
سيكون صعباً جداً ؛
لقد كانَ ممتعاً هذا اليوم جداً .
هكذا يَجِبُ أَنْ أُنهي حياتي .


( 55 ) فوجيوارا نو كينتو :

مع أنّ الشّلالَ
توقف تدفقه منذ عهد بعيد ،
وصوته قد سَكن ؛
إلا أنه ظل ، في اسمهِ متدفقاً أبداً ،
وفي الشّهرةِ يُحتملُ أن يكون ذائعاً .



( 56 ) السيدة إزومي شيكيبو :

قريباً ستنتهي حياتي ؛

عندما أُفني هذا العالم .

وأنساه ..
دعني أتذكر ذلك وحسب :

لقاءً أخيراً معك .


( 57 ) السيدة موراساكي شيكيبو :

لقاء في الطريقِ ،
لكن لا يُمكنني أَنْ أَعْرفَ بوضوح
لو أنه كان هو ؛
لأن قمر منتصف الليل
في غيمةٍ قَد اختفى .


( 58 ) دايني نو سانمي [ السيدة كاتائيكو ] :

مثل جبل ( آريما )
يُرسلُ حفيف رياحه عبر
سهول الخيزران في ( إينا )؛
أنا سوف أكون راسخةً وحسب

ولن أنساك أبداً.


( 59 ) [ السيدة ] أكازومي إمون

أفضل النوم
خليًّا ، من الاحتفاظ بالزمن العقيم
خلال مرور الليل ،
إلى أن رَأيتُ القمر الوحيد
يجتاز طريقَه المنحدر .


( 60 ) [ السيدة ] كوشيكيبو نو نايشي :

بوساطة جبل ( أوي )
الطريق إلى ( إكيونو )
بعيدُ للغاية ،
ولا أملك أن أكون معتصماً
ولا عابراً جسره السماوي .


( 61 ) [ السيدة ] إيسي نو أوسوكي :

يُزهرُ الكرز ثمان ثنيات
ذلك في

( نارا ) - حاضرة دولتنا القديمة –

قَدْ أزهر ؛
في ثنيات شرفات قصرنا التسع

يعبق عطرهم العذب اليوم .


( 62 ) [ السيدة ] سي شوناجون :

مختالاً ينعق في منتصف الليل
يضلل السامعين

لكن عند مدخل ( أوساكا )
الحراس ما خدعوا .


( 63 ) [ فوجيوارا ] ساكيو نو تايو ميشيماسا :

ما من طريق هناك ،
عدا التوسل برسول
لإرسال هذه الكَلِمات لك ؟
لو أنني أستطيع ، لأتيت إليك
لأقول وداعاً إلى الأبد .



( 64 ) [ فوجيوارا ] جون شاناجون سادايوري :

عند مطلع الفجر ،
عندما ينتشر الضباب فوق نبع ( أوجي )
ويصعد بأناة وإشراق ،
من المياه الضحلة إلى العمق ،
تتراءى قصبات شبكات الصيد .


( 65 ) [ السيدة ] ساجامي :

حتى عندما يجعلني حقدك
أصبغ أكمامي بالدموع
في شقاء فاتر ،
أسوأ من الحقد والبؤس
تكون خسارة اسمي الحسن .



( 66 ) [ رئيس الدير ] ساكي نو دايسوجو جيوسون :

على حافة الجبل
منفردة ، بلا رفيق ،
تنتصب شجرة الكرز .
دونك ، صديق وحيد ،
أنا ، للآخرين مجهول .


( 67 ) [ السيدة ] سوو نو نايشي :

لو أنني طرحت رأسي
فوق ذراعه في الظلام
في ليل ربيعي قصير ،
هذه وسادة الحلم البريء
سيكون الموت أحسن أسمائي .


( 68 ) [ الإمبراطور ] سانجو نو إن :

مع أنني لا أريد
أن أعايش ما في هذا العالم الزائف ،
لو أنني أمكث هنا ؛
دعني أتذكر وحسب
هذا منتصف الليل وهذا بزوغ القمر .


( 69 ) [ الراهب ] نوين هوشي :

بانفجار زوبعة الريحِ ،
من منحدراتِ جبلِ ( ميمورو )
أوراق القيقبِ تتمزق ،
تلك انعطافة نهر ( تاتسوتا )
في براح مطرز غني .


( 70 ) [ الراهب ] ريوزين هوشي :

في عزلتي
أترك كوخي المتواضع ،
عندما أنظر حولي ،
في أي مكان ، كانت هي نفسها :
منفردة وحيدة ، ظلمة ليل الخريفِ .


( 71 ) دايناجون [ ميناموتو نو ] تسونينوبو :

عندما يأتي المساء ،
من أوراق الأرزِّ عند بوّابتي ،
تُسمع طرقات لطيفة ؛
و ، نحو كوخِي المستدير تندفع ،
يدخل نسيم الخريف الطوَّاف .


( 72 ) [ السيدة ] يوشي نايشينّو كي نو كيه :

مشهورة تلك الأمواج
تلك الإجازة على ساحل ( تاكاشي )
في غطرسة صاخبة .

لو أن عليّ أن أذهب قرب ذلك الشاطئ

أنا سوف أُبلّلَ أكمامي وحسب .


( 73 ) [ أوي نو ] جون شاناجون ماسافوسا

على ذلك الجبلِ البعيدِ ،
فوق المنحدرِ تحت القمة ،
الكرز في ازدهار .
عجباً ، دع سحب الجبل
لا تظهر لحجب المشهد .


( 74 ) ميناموتو نو توشيوري آسون :

ليس من أجل ذلك

أنا صليتُ عند المحراب العظيم :
لأنها ستصبح
كالجفاء ، والوهن
كالزوابعِ فوق تلالِ ( هاسي ).


( 75 ) فوجيوارا نو موتوتوشي :

مثلما يَعِدُ الندى
بحياة جديدة للنبتة العطشى ،
كذلك كان قسمك لي .
وحتى الآن السنة قد انقضت عابرة ،
والخريفُ قد جاء ثانية .


( 76 ) [ فوجيوارا نو تاداميتشي ] هوشوجي نو نيودو ساكي نو كوامباكو دايجو دايجين :

فوق عباب البحرِ الفسيحِ ،
مثلما أُجدّفُ واَنْظرُ حولي ،
تتراءى لي
تلك الأمواج البيضاء ، ماضية بعيداً ،
والسّماءُ مشرقة دوماً .


( 77 ) [ الإمبراطور ] سوتوكو إن :

مع أنه نهر سريع
شطرته صخرة
في اندفاع تدفقِه ،
وعلى الرغم من انشعابه ، عليه أن يوغل ،
وأخيراً يتوحد ثانية .


( 78 ) ميناموتو نو كانيماسا :

حارس بوّابةِ ( سوما )،
عن نومك ، كم من ليال عديدة
قد سهرت

على صيحات البدو الكئيبة ،
مهاجراً من جزيرةِ ( آواجي ) ؟ .


( 79 ) [ فوجيوارا ] ساكيو نو تايو أكيسوكي :

انظر ، كم جلية وساطعة
تكون الطرقات المكشوفة بضوء القمر
خلال الغيوم المقطعة
التي ، مع اندفاع ريحِ الخريفِ ،
رشيقةًً تطوف عبر السّماءِ .


( 80 ) [ السيدة ] تايكين مون-إن نو هوريكاوا :

هل إلى الأبد
هو يأمل حبّنا أَنْ يَدُومَ ؟ .
إنه لن يجيب .
والآن أفكاري النهارية
مثل شعري الأسود ، متشابكة .


( 81 ) فوجيوارا نو سانيسادا :

عندما أَجَلْتُ نظرتي
نحو المكان حيثما سَمعتُ
نداء الوقواق ،
الشيء الوحيد الذي وجدت
كَانَ قمر الفجر المبكر .


( 82 ) [ الراهب ] دوين هوشي :

مع أن الأحزان العميقة
خلال عاصفتك الوحشيّة، حياتي
ما زالَت متروكة لي .
لكن دموعي لا أستطيع أن أكفكفها ؛
إنها لا تستطيع تحمّل أحزاني .


( 83 ) [ فوجيوارا ] كوتاي كوجو نو تايو توشيناري :

عن هذا العالم - أعتقد
أنه لا مكان هناك للهرب .
أردت أن أختفي
في أعماقِ الجبالِ القصية ؛
لكني سمعت هناك بكاء الأيائل .


( 84 ) فوجيوارا نو كيوسوكي آسون :

لو يجب عليَّ أن أعيش طويلاً ،
إذن لعل أيامي الحاضرة
ربما تَكُونَ حبيبةً إليَّ ؛
فقط كما ملأت أوقاتي الماضية بالأسى
تَجيءُ الآن بخلفية حنونة في الفكر .


( 85 ) [ الراهب ] شانيئي هوشي :

خلال ليلٍ ساهرٍ
مشوقاً أعْبرُ السّاعات ،
بينما تلكأ فجر اليوم ،
والآن مصراعي غرفة النوم
يحفظان الضوء والحياة عليَّ .


( 86 ) [ الراهب ] سايجيو هوشي :

هل عليَّ أن ألوم القمر
الذي جدد هذه الأحزان ،
كما لو أنها كانت أسى مصوراً ؟
أرفع وجهي قلقاً ،
ألاحظه خلال دموعي .


( 87 ) جاكورين هوشي :

ليلة خريفِية :
شَاهِدْ سُحُبَ الواديَ تتكاثف
خلال أوراق شجرة ( التنوب )
التي ما زالَت تَحْملُ البلل المتَقاطر
من مطر الأيام الباردة المفاجئ .


( 88 ) كوكا مون-إن نو بيتّو[تابع الإمبراطورة كوكا]:

بعد ليلة وجيزة واحدة ،
قصيرة كعقلة القصبةِ
ينْمُو في خليجِ ( نانيوا )،
هل عليَّ أن أشتاق له إلى الأبد
بقلبي المفعم ، حتى انتهاء الحياة ؟


( 89 ) [ الأميرة ] شوكوشي نايشينُّو :

مثل خيط العقد
نشأ ضعيفاً ، حياتي سوف تنفرط الآن ؛
لأنني لو ظللتُ أَعِيشُ ،
كل ما أفعله أن أَخفي حبّي
ربما يَنْمو أخيراً واهناً ويزوي .


( 90 ) [ تابع إمبراطورة إنبو] إمبو مون-إن نو تايو:

دعني أريه هذا ...!
حتى أكمام صائدي السمك
عند ساحل ( أوجيما )،
على الرغم من أنّ البللَ يتخللها وتبتلل مجدداً،
لا تتغيرُ ألوانها .


( 91 ) جو - كايوجوكو نو سيسشو دايجودايجين [ فوجيوارا نو يوشيتسيوني ]:

في فراشي البارد ،
محجوبة صورة لحافي المطوي ،
إنني أنَامُ وحيداً ،
بينما تتجمع خلال ليل الصقيع
فأسمعها : أصواتُ الكركدن الوحيدة .


( 92 ) [ السيدة ] نيجو نو إن نو سانوكي :

مثل صخرةٍ في البحر ،
في المد والجزرِ يختفي من المنظر ،
كُمّي المغمور بالدموع :
لن يجف للحظةٍ ،
ولا أحد يعرف أنه هناك .


( 93 ) كاماكورا نو أودايجين [ ميناموتو نو سانيتومو ] :

لو عالمنا فقط
يمكن أن يظل دائماً كما هو !
ذلك المشهد الجميل
لمركب الصيد الصغير ،
موثوقاً بالحبال على طول الشّاطئ .


( 94 ) [ فوجيوارا نو ] سانجي ماساتسوني :

من جبل ( يوشينو )
عواصف باردة ، ريح خريفية ،
في أعماق الليلِ
ترتعش البلدة القديمة :
أسمع أصوات الأشرعة المندحرة .


( 95 ) [ رئيس الدير ] ساكي نو دايسوجو جين :

من الدير
على جبل ( هييئي ) أنا أراقب
هذا العالمَ الكئيب
ومع ذلك أنا غير جدير
بأن أحميه بأكمامي المقدسة .


( 96 ) [ فوجيوارا نو كينتسيوني ] نيودو ساكي نو دايجو- دايجين :

لَيسَ ثلج الزّهورِ ،
الذي تجرفه الريح الهمجية العاصفة
حول شرفة الحديقةِ
الذي يتبدد وينهار ضائعاً
في هذا المكان إنه أنا نفسي .


( 97 ) جون - شاناجون سادائي [ فوجيوارا نو سادائي ، فوجيوارا نو تيئيكا ] :

مثل عشب البحر المالحِ ،

التوهج في سكون المساءِ ،
على شاطئِ ( ماتسوو )،
وجودي كله متوهج ،
بانتَظِارها ، تلك التي لن تَجيء .


( 98 ) [ فوجيوارا نو إيتاكا ] جوزامِّي كاريو :

إلى جدول ( نارا )
يأتي المساء ، وحفيف الرياح
يحرك أوراق أشجار البلوط ؛
لم يترك إشارة صيف
لكن القداسة تَستحمُّ هناك .


( 99 ) [ الإمبراطور ] جو توبا - نو – إن :

لبعض الرّجالِ آسى ؛
وبعض الرّجالِ بغضاء إليَّ ؛
وهذا العالمُ التّعسِ
لي ، بكل أحزاني ،
مكان بائس .


( 100 ) [ الإمبراطور ] جانتوكو إن :

في هذه الدار العتيقة ،
مرصوفة بمائة حجر ،
تنمو السراخس في الإفريز ؛
لكنها كثيرة مثلهم تكون ،
ذكرياتي القديمة أكبر .

2007/11/15

إبدالات المكان

إبدالات المكان وتحولات الرؤية
المكانان الجمالي والإبدالي في نماذج قصصية من صعيد مصر
ورقة العمل المقدمة إلى المؤتمر الأدبي الثالث
لإقليم وسط وجنوب الصعيد الثقافي 2002
النشر الورقي : كتاب المؤتمر، ط1 –
الهيئة المصرية العامة لقصور الثقافة ، المنيا 2002

تأليف
علاء الدين رمضان
** المقدمة :
تتنوع صور المكان واستخداماته لدى كتاب الصعيد ، نتيجة لعمق علاقتهم بالأمكنة ولخصوصية بيئاتهم المكانية في الصعيد ، تلك التي تركت في أدبهم آثاراً جلية ودفعت نتاجاتهم بمؤثرات ذات سلطة فارقة في تصنيف النصوص مكانياً ، فجاءت أعمالهم مصطبغة بخصوصية مكانهم الذي ينتمون إليه وأخص من هؤلاءِ ، الأجيالَ الأكبر سناً من المبدعين ، تلك السلطة المكانية التي تجاوزت أهل الصعيد وفرضت شروطها ووسمت بميسمها كتابات أدباء ليسوا من أبناء المكان كما هي الحال في كتابات ( يحيى حقي ) الذي نستطيع أن نصفه بأنه حبيس تجاربه في الصعيد .لقد تفاعل كتاب الصعيد مع الأمكنة تفاعلاً منتجاً تمخض عن عدد من الكتابات الموجهة ذات الفنية العالية في نتاج النص ومدلولاته من خلال مرآة الحيز المكاني الذي ارتبطت حياتهم به ، وقد ترك المكانُ في أعمالهم الأدبية سماته من خلال مؤثرات عميقة كان لها دورها المقدر في بناء الكاتب والمكتوب .وسوف تتناول هذه الدراسةُ المكانَ من خلال النماذج القصصية التي عمدتُ في جمعها إلى استخدام منهج أرجو أن يكون تبريره واضحاً لديكم هو المنهج الانتقائي : لدراسة القصة الفنية ذات الطابع غير التقليدي ، أو بمعنى أدق القصة بعد شيوع النظرية الجمالية وتطبيقاتها ووعي الكتاب بها ، ثم ملاحظتهم لأهمية المكان واختلاف رؤيتهم لأدواره التي يمكن أن يُسهم بها في تعميق طروحات النص الأدبي ؛ نستطيع إذن أن نرده إلى عشرين سنة ماضية بدءاً من نشر كتاب غاستون باشلار ( جمالية المكان ) للمرة الأولى مترجماً إلى العربية عام 1980م(1) ، لذلك أُقَسِّمُ نماذج الدراسة في داخل هذا النسيج الزمني ؛ ثم أنتقي من كل عقد كاتباً وكاتبة لديهما القدرة على الدلالة الكاملة والإنابة عن جيلهما ؛ فالكُتَّاب الشباب حتى الثلاثين من العمر تمثلهم الأديبة هند محمد عبد الرحمن والأديب خالد أبو النور ؛ وحتى الأربعين تمثلهم الأديبة جمالات عبد اللطيف و الأديب محمود رمضان محمد الطهطاوي .وأُشير منذ البدء إلى أن أهم ما يَمِيزُ تلك النماذج التي تخيرتها الدراسة أن كُتابها لم يكن المكان عندهم بمعزل عن بقية العناصر الأخرى ؛ بل جعلوه مرتبطا دائما ببقية العناصر المشكلة لنصوصهم ، لا سيما الشخصيات والزمان فاكتسب المكان أهميته من خلال حركة الشخصيات فيه ، أو حركته التي يمارسها على الأشخاص ، أما الزمان فهو عند الكاتب محمود الطهطاوي شديد الارتباط بالمكان ، حتى أنه يكاد يكون ملازما له في معظم الأحيان ؛ وقد استغل أدباء الدراسة الرمز في أعمالهم فأحسنوا توظيفه في التعبير عما يريدون من وقائع رمزية ورؤيوية غير مصرح بها على السطح النصي ، فقد جعل الكاتب ( خالد أبو النور ) من المكان الرمزي أداة للتعبير عن مشكلات إنسان البيئة الخاصة في مواجهة جمود بيئته وعدم قبولها للتفتح المعرفي ونبذ الخرافات ، بينما الأمر يأخذ عند الكاتبة ( جمالات عبد اللطيف ) بُعداً سياسياً واجتماعياً مما يجعل أعمالها إلى جانب أعمال ( خالد أبو النور ) تستعصي على القراءة العادية فهي تحتاج إلى قراءة متعمقة لسبر رموزها وكشف خباياها .
** المكانان القياسي والجمالي :
­المكان جزء رئيس من مكونات الوعي البيئي لدى الكاتب ، بل إنه يتحول في بعض الأعمال الأدبية إلى بديل مقصود عن البيئة بأسرها ، وللأماكن أدوار متباينة تؤديها في الأعمال الأدبية ، يصل بعضها إلى مرحلة البطولة المطلقة وتَسَيُّد مسيرة الأحداث في العمل الأدبي(2) ؛ والمكان في السياق الأدبي له بُعْدُهُ الجمالي الذي لا يُقصد به الهيكل الموضعي أو الوصف الشكلي الخارجي للمكان ؛ فالمكان الموضعي لا يعني الأدباء في شيء إلا إذا كانت كتاباتهم مقالية راصدة ، وهي بالتبعية ليست من الفن في شيء ، أما المكان الأدبي داخل العمل فهو إسقاطاته ودوره وسلطته المشاركة في توجيه الأحداث والشخصيات ، وأثر المكان الموضعي في العناصر البيئية التي تعيش عليه . يقول غاستون باشلار : " لو أننا طولبنا بتعداد الأبواب التي أغلقناها والتي فتحناها ، وتلك التي نود أن نعيد فتحها ، فإنه يتوجب علينا أن نسرد قصة حياتنا بكاملها"(3)؛فذاكرة المكان هي ذاكرة الإنسان ؛ إذ يستطيع كل ابن مدينة أو قرية،أن يمشي في شوارع مدينته أو قريته ، ويتذكر ما كان ، وبالتأكيد سيحصد أشياء جميلة وشجية ليست سوى ذكريات المكان الذي يُعد الحافظ لها والمحفز على تذكرها ؛ لكنها أبداً ستظل محصورة في دائرة الذكرى ما لم يعيد نتاجها قلم واعٍ لديه القدرة على إعادة تقليب التربة وتفصيل خصائصها وفصل كل شبيه إلى شبيهه،وكل مخالف عن مخالفه.يرى ميخائيل باختين أن جوهر الرؤية الدرامية يكمن في رؤية الشخصية داخل المكان ، ويشير إلى أن ديستوفيسكي رأى تناقضات زمانه متجاورة في المكان لا في الزمان ؛ من هنا نبعت رؤية خالد أبو النور للمكان الذي يحمل جمهرة من التناقضات التي يرى أن عليه بوصفه كاتباً أن يُنَاوِئَها ويُقْصِيها من مشهدية بيئته قدر استطاعته ؛ فما كان في إمكانه إلا أن يصورها في أعماله على نحو يثير الحفيظة ضدها ويدعو إلى نبذها ، فالغفلة والتخلف يخيمان على قريته ( المكان وأهله ) ، وفي معظم كتاباته ، تتجلى الغفلة جاثمة على مشهدية القرية ، فالكاتب يعري الزيف ويكشف الواقع من خلال رأب القرائن المنفصلة ووضع الصور المكانية بعضها في مقابل بعض حتى ينجلي الأمر وتتجلى التناقضات ، فينير المعنى ؛ إذ أن هناك دائماً ما هو أخطر من العرض الحكائي والرصد الخارجي للتفاصيل اليومية في حياة المكان عند هذا الكاتب ؛ هناك الإنسان الذي كان موجوداً يوم كان الأمل في الخلاص موجوداً ؛ لذلك نجد أن وصف المكان عند خالد أبو النور يخضع لعملية الاختزال الانتقائي الدال بسبب ما يُعْنَى به الكاتب من توجيه الفنيات اللغوية داخل العمل واستخدامات الألفاظ ، ودلالاتها ، كما يعتني كذلك بفاعلية الرمز المكاني وتحولاته ؛ فبين ( المغيب ) ، و ( طبل الشيخ رشوان ) ، و ( في ذكرى سيدي المغني ) أكثر من وشيجة فكرية وفنية فكلها تسري في عروقها لغة واحدة تجسد نفرة الكاتب من الواقع الذي عايشه ويعايشه ورفضه للقرية التي هجرها المُخَلِّصُ يائساً ؛ وتظهر في النصوص المتاحة من كتابات الأديب ”خالد أبو النور“ أنها تجارب تنطلق من نبع واحد يدعم بعضها بعضاً ويتطور بعضها عن بعض ويعمق بعضها بعضاً وتؤكد كل تلك النصوص على ما يعتور حياة الريف من انفصامٍ وبُعْدٍ مروِّع عن القيم الأهم وإن بدا في ظاهره الحارس الأمين لها .فـ ( طبل الشيخ رشوان ) مكان احتفالي لايسميه أهل القرية مولداً أو محفلاً ، وإنما يسمونه ( طبلاً ) لالتصاقه بمهمته الأساسية ، وهي ( قرع الطبول ) ،( والطبل عندنا في قرى الصعيد اسم مكان يطلق على الموقع الذي تقرع فيه الدفوف ، وهو على سبيل المجاز الدلالي ) ؛ ويسبغ الكاتب على المكان عدداً من الصفات التي تُلصق به الغفلة والضلال والجدب ، فهو ساحة : للدلالة على الفراغ ، ورمل : للدلالة على الجدب .. وغيرها من دلالات ، ويكشف الكاتب عن الهدف الرئيس من وراء تلك الاحتفالية ، وهو ” ترقيص فرس العمدة “ ، لكن الأحداث تفرض نتيجةً أخرى تشارك الهدف ساحة الطبل ، هذه النتيجة هي إضحاك عم عوض خادم الكبار والعبد الموروث ، وكأنه شريك كامل في الدلالة ، والكاشف لحقيقة الطبل ؛ فعم عوض اللاعب الماهر الذي يجيد اللعب بالعصا ( حريف ) من يومه ، إلا أنه عندما يبارز من يملك العليق آخر الموسم يتصنع أمامه الاندحار والهزيمة لأنه يوقن أن ” الشيخ رشوان وطبله لن يملآ بطنه ولو أوقع عمامة العمدة نفسه “ والكاتب يشير في غير خفاء إلى أن كل أهل القرية عميان ، وأن الشخصية الوحيدة المبصرة هي ( عوض ) ، ويظهر في الساحة أن الجميع عندما يأتونها يرقصون في غفلة كالعميان معصوبي الأعين تمتزج في الساحة رائحة المعسل والشاي والقصب برائحة الناس والبهائم والضعة ، لذلك شعر الراوي الطفل للمرة الأولى برائحة مخالفة عندما حمله خاله فوق كتفيه ليرى ابن ( جناب العمدة ) وهو يرقص مع أبيه ، يقول الراوي : ” تشم أنفي لأول مرة رائحة غير رائحة البشر والبهائم “ وسرعان ما نكتشف أنها ليست سوى رائحة الكبرياء فهو أعلى من الناس في الطبل فليس سواه هو والعمدة وابن العمدة من يرتفع فوق رقاب الناس وهو يشعر سلفاً بتفوقه وبما يملك من مسوغ للسيادة والكبرياء ، فهو يرتدي بيجامة مخططة أحضرتها له جدته من بيت المأمور ، فيزدهي بارتدائها في المناسبات الحافلة ، ويشعر بأنه يشارك ابن المأمور ملابسه .ويوضح الكاتب أنه ليس كل أهل القرية من رواد ساحة الطبل ، يَغُطُّون في ظلمات العمى وغفلة الضلال ، إذ يشير الكاتب إلى أن هناك من بقي خارج ساحة الشيخ رشوان ، فهو في نجوة من الجدب والغفلة والضلال كالجد الذي جلس متكئاً على جدار ( الجامع المهجور ) ، ودلالة الهِجْرَان هنا دلالة عكسية فطالما أن الساحة عامرةٌ فالجامع مهجور ، والجامع رمز للقيمة والهدى والأصالة .. وكل هاته المعاني المفقودة التي يؤكد الكاتب غيابها أو غياب الناس عنها في مفارقة بنائية جيدة عندما يقول : ” تضجعني أمي أمامها .. وتتجه حواسي ناحية السامر والطبلة الكبيرة .. وعندما يزعق المؤذن ( الصلاة خير من النوم ) تنام كل الأشياء ما عدا الديك .. عندها أدفن رأسي في صدر أمي .. أنام منتظراً عودة الشيخ رشوان وكأنه يؤكد على تلك الحياة السلبية التي تعيشها القرية ، مع إشارته إلى بقاء قيمة الخصوبة / الأمل بالقرية ممثلة في الديك وهي القيمة الوحيدة الباقية فيها كما يرى الكاتب .أما عند السيدة جمالات عبد اللطيف فإن المكان في كتاباتها لا يسلم نفسه بسهولة ؛ فقد يتراءى للقارئ أن المكان هو بيتها ، وهذا صحيح للوهلة الأولى ؛ لكن التمعـن في تلك المآسي يكشف لنا عن خبء كثير ، فالمكان ليس سوى الوطن الكبير والسيدة المحتجزة في بيتها أو التي ترسف في قيود تقاليدها ليست سوى فلسطين ( في : الركض فوق هضاب الشمس ) ، والكرامة العربية ( في القصة الطويلة : يا عزيز عيني .. إلى مسعود أبو حجازي )(4) ، والأمة العربية الغافلة بعد حرب الخليج ( في القصة القصيرة : يا .. عزيز عيني .. إلى محفوظ عبد الباري )(5)؛ فالشخصية التي تسرد الحدث على وجداننا ليست سوى الوجدان العام للأمة العربية ، وهي بالضرورة ذات صبغة وسمة مكانيتين ، فهي المكان ، وليس في ذاكرتها إلا التاريخ ، وحين تتذكر الشخصية الرئيسة / البطلة / المكان / بعضاً مما جرى ، إنما تسرد علينا الأحداث الاجتماعية غير المدونة ، بل على نحو أدق أثر تلك الأحداث في الوجدان العربي تمهيداً لطيه في مخزن الاحتمال العربي الفسيح ؛ ففي قصة ( الركض فوق هضاب الشمس ) نلتقي مع قدرة الكاتبة المتمرسة على صياغة تكثيف درامي للمفارقة ، فالمكان هو الذي أصبح يسكن صاحبته وليست صاحبته هي التي تسكنه ؛ فالقصة ترصد مجرى الحياة للكائن المفرد المعزول وتحولها من حياة أولية مكرورة ، إلى حياة رامزة مركبة تحمل عدداً كبيراً من الدلالات وحشداً من الإسقاطات وتحفز في طريقها طائفة من التجارب ذات البعد المكاني ، فقد جعلتها الكاتبة حياة مليئة بالحس التراجيدي العام ، وبالموقف السياسي المشبع بالوطنية والإنسانية معاً ، في حين احتفظ النص بالبعدين التاريخي العربي ، والقروي الخاص جداً ببيئة الكاتبة الأم في قرى الصعيد ؛ فهي قصة عن فلسطين وعن العرب ، عن الكائن المفرد في عزلته ، وعن الكيان الاجتماعي الريفي وشروره وما يقع في طريقه من ضحايا حتى في أشد حالاتهم سلاماً ؛ وفي غمار هذه المآسي المتدافعة المربكة تمكنت الكاتبة من حسم موقفها الإنساني نهائيا وذلك بالانتقال من السلبية إلى محاولة تغيير الواقع المفروض ودفع ما يحيق بها من ظلم وقسوة واضطهاد ؛ وهو الموقف نفسه الذي عاشته البطلة واستدعى موقفاً مماثلاً لم يحدث من فرد بل اضطلع به هذه المرة مجتمع بأسره هو ثورة الحجارة الفلسطينية ، وتلتقي كذلك مع هذه الثورة في الهدف والفعل والآلة ، هدفها الخلاص من الظلم وقسوة الحصار في المكان ، وفعلها هو الخروج من الرضوخ والسلبية وانتظار ( الفرج ) المتمثل في العون الخارجي في حالة فلسطين إلى التصدي للاضطلاع بفعل إيجابي هو استخدام الحجر الذي هو في الوقت نفسه الآلة التي واجهت بها البطلة زوجها المتسلط المغرور الذي يملك البندقية التي تخيفها ويصوبها إلى صدرها باستمرارٍ كي ترضخ ، وقد تركت الكاتبة لنا قوة الأمل والإصرار على الإتيان بفعل وكأن هذا هو الهدف نفسه ، لا عملية إحداث الحرية، وهو على الأصح مدخل الحلم الأشمل:”أخذ يقهقه ساخراً من الحجر ومني،على أني كنت أعرف بأني سأقتله بهذا الحجر، ذلك لأني أقسمت أن أفعل“.وفي قصتها الطويلة ( يا عزيز عيني ) يتداخل الماضي في الحاضر ، وتشتبك المشاعر مع التاريخي في عملية معقدة أساسها البحث عن المكان في ضوء ما جر عليه الزمان ؛ فذكريات الحب التي ابتدأت في الحي، والتعلق بالحبيب القريب الذي يمنح استعادة صورة المنـزل الأول القديم بعداً إيحائياً وانفعالياً إضافياً ، وعلى الرغم من اقتراب منـزلي الحبيبين وتجاورهما، فقد تقطعت حبال الحب دون تحقيق وصالهما، وهذا ما ولد في أعمال الكاتبة صورة "القريب / البعيد = الغائب / الحاضر " التي ترددت كثيراً في مواضع مختلفة من أعمالها لدرجة أصبحت معها تيمة مميزة لأدب الكاتبة ، وهي تيمة مبررة بقوة في أدبها إذ تتخذ منها رمزاً للمواطن العربي الفاعل الذي تنتظره الأمة العربية ، وإن كان ذلك دون جدوى إلى الآن ، سواءً في الواقع ، أم في أدب السيدة جمالات عبد اللطيف ؛ وأشير إلى أن تلويح الكاتبة بالأدوار القديمة للإنسان العربي ، تلك التي تعوزنا الحاجة إليها في حقبتنا الراهنة لا يجعلنا بالضرورة أمام حالة استرجاع flashback ، مما هو معروف في فنيات البناء ؛ وذلك لسبب يسير ، هو أن الكاتبة لا تعيد ترتيب فصول تجربة وقعت ، وإنما تعيد نتاج وقائع حقيقية في الروح مضافاً إليها ما جرى ويجري للشاهدة على هذه الوقائع .
** استدعاء الطفولة :
دور الطفولة وخصوصية مثل هذه المرحلة في التكوين النفسي للإنسان بعامة وللأديب بخاصة من الأدوار المهمة في البحث عن المكان عند الأدباء الذين يملكون تأثيراً ملحاً في مخزونهم الوجداني من تلك المرحلة ؛ فالأمكنة الأولى التي درجت فيها خطاهم تُرسم في خزين الذاكرة محملة بالدلالات الراسخة لحركة الزمان وأفعاله ، وأدب كتاب الصعيد يبدى احتفاء مناسباً بالتعبير عن الأمكنة المرتبطة بالبيئة الأم التي هي الصعيد بالضرورة ومرحلة نشأة كتابنا فيها ، وهذا الاحتفاء ينسجم مع عمل البنية النفسية للأديب في استعادته لمكونات طفولته ونشأته الأولى ، حتى وإن خرج من تحت ظُلَّة تلك البيئة ليستظل بعراء بيئات أخرى إلا أنه سيظل خاضعاً للبيئة ذات السطوة التي فيها القوة واللين ، القسوة والرفق والخصوصية البالغة : الصعيد .وقد قدم الناقد الفرنسي غاستون باشلار في كتابه "جماليات المكان" بحثاً قيماً عن مثل هذه الاستعادة في الإبداع الأدبي ، يقول الأديب غالب هلسا مترجم الكتاب في تقديمه له : " البيت القديم ، بيت الطفولة ، هو مكان الألفة ، ومركز تكييف الخيال . وعندما نبتعد عنه نظل دائماً نستعيد ذكراه "؛ أو بحسب تعبير باشلار نفسه : ” البيت الذي ولدنا فيه بيت مأهول بقيم الألفة الموزعة في أرجائه ، وليس من السهل إقامة توازن بينها إذ هي تخضع للجدل .. فالبيت الذي ولدنا فيه محفور بشكل مادي في داخلنا ؛ إنه يصبح مجموعة من العادات العضوية ؛ فالبيت الذي ولدنا فيه مشحون بقيم الحلم التي تبقى بعد زوال البيت . تتجمع فيه مراكز الوحدة والضجر والأحلام ، وهو أكثر ديمومة من ذكرياتنا المشتتة عن البيت الذي ولدنا فيه(6) .وقد كان لاستدعاء الطفولة عند الأديب خالد أبو النور قيمة مميزة ، وبخاصة في قصته ( بنت من طين ) التي هي قصة مكانية بالدرجة الأولى ، بل مكرسة لإبراز دور المكان الأصيل في مقابل المكان الهجين ، وعالم القرية في مقابل البندر ، الصراع بينهما؛ وذلك بوساطة ( عشة إدريس ) التي تقبع وراء الطاحونة في القرية المنفتحة التي نشا فيها جيل هجين أمه بندرية تشد أبناءها نحو البندر وقيمه الهشة وعاداته المفتوحة التي لا تقرها القرية ، عشة إدريس هي في لجة هذه التيارات ليست سوى مكان إبدالي يوفر المعادل النفسي لطفل قروي قح ، محروم من أمه التي توفيت عنه ، وطفلة أمها بندرية تنْفُسُ في تربيتها عن جانب من ضيقها وتذمرها من حياة القرية وعادات أهلها ؛ فسمراء - ابنة البندرية – لها دائماً ثوب نظيف يلمع مثل شعرها الطويل ، وقد اختار الكاتب هنا موضعاً مميزاً للمكان ذا دلالة مساهمة في بنية القصة : فالعشة – أولاً - مكان يتميز بوفرة الطين والماء الضحل الذي يساعدهم في أداء لعبتهم الأثيرة التي تتمثل في صنع عائلة من الطين وإدارة الحوارات والأحداث حولها ، وهي بهذه الأوصاف تمثل المعادل الرمزي لفطرية القرية ؛ ثم إن تلك العشة تقع وراء الطاحونة التي تقوم معادلاً للحياة في الخارج = خارج عشة إدريس ؛ وقد جعل الكاتب من العشة مكاناً ذا دلالة نفسية واجتماعية ، فيه مفهوم الخزانة(7) ، فهو أشبه بالنفس الإنسانية التي تحمل كل صروف الحالات الخاصة لصاحبها ، ويؤكد على ذلك أن الراوي / الطفل : نقل أبناءه من سمراء ( الطينيين ) إلى صندوقه عند سفر سمراء مع أمها وأبيها إلى البندر ، وقد حول الكاتب المكان إلى مقياس يختبر به الإنسان ومشاعره، فعند عودة سمراء إلى القرية بعد سنوات انتظرها في العشة فلم تحضر ، ولما ذهب إلى منـزلها وجدها بنتاً يافعاً كبر صدرها ترتدي بنطلوناً ضيقاً ؛ فأدرك أن سمراء لم تعد ، فلما ذهب إلى صندوقه وجدها كما هي لا يزال لونها طيناً وثديها كحبة الليمون صغيراً ، مؤكداً بذلك على أن هذا العالم باقٍ بشروطه التي تنفي الخارجين عليها وأن من ترك ( عشة إدريس ) دخل إلى طاحونة الحياة ، ففقد عناصره الطينية التي تشير إلى الفطرة والصفاء .فالقصة تؤكد على مفهوم الفطرة وأن الفطرة مرتبطة بالمكان ( عشة إدريس ) مَنْ هجره هجرته ؛ فسمراء عندما عادت من البندر عادت بشروط سلوكية غير التي ذهبت بها ترتدي بنطلوناً ضيقاً وتضحك بصوت عالٍ ، الأمر الذي دفع بالبطل إلى التنكر لها قائلاً لجدته : ” دي مش سمرة “ ، واستبدل بها وهماً يجعل لتجربته الفطرية أمداً موصولاً .. ويتمثل ذلك الوهم في سمرة التي بناها بيده وصنعها على عينه من تراب عشة إدريس وبللها بمائها الضحل ويبس طينتها في عراء فضائها وبوساطة شمسها المتوهجة ، فهذه هي سمراء التي عرفها .فمراحل التدرج الفكرى في هذه القصة تبدأ من حالة الهروب من الإحباطات اليومية التي تواجه طفلاً وطفلة دفعتهما إلى اختلاق بيئة مكانية بديلة من وراء الطاحونة التي تمثل الحياة ، هذه البيئة المكانية تتمثل في عشة إدريس ، أما المرحلة الثانية فترصد حالة الانفصال بين البنت والولد ، بسبب سفر البنت مع والديها إلى البندر في إشارة إلى تمكن البندرية من السيطرة على الأب بتحويله مكانياً من أمام الطاحونة ( القرية الهجين ) إلى البندر ( قلب الطاحونة ) والسيطرة على البنت التي كانت دائماً ترغب أمها في جعلها لامعة : ثوباً وشعراً ومظهراً ؛ والمرحلة الثالثة تتمثل في الهرب من ( عشة إدريس ) إلى مكان آخر أكثر أمناً هو صندوق الولد ، ولم يصرح الكاتب ما إذا كان هذا الصندوق هو صندوق اللعب أم غير ذلك ، ربما ليشاكل بهذه المفردة المفهوم النفسي للخزانة ، وهو ما يعني النفس الإنسانية ، ثم تأتي المرحلة الرابعة وهي حالة الاستلاب التي واجهها الولد عندما انتظر رفيقة مكانه سمراء في عشة إدريس ، ولم تأته ، فتعجلها وذهب إليها فوجد بنتاً بندرية شكلاً وسلوكاً ؛ وقد أسلمته حالته النفسية في تلك المرحلة إلى حالة أخرى هي حالة رد الفعل الاستعادي في مواجهة الاستلاب فقد عاد إلى سمراء التي صنعها من الطين ليجدها لما تزل كما هي منذ عرف أحدهما الآخر .لقد اختلطت في نفسه المأساة الفردية ( ممثلة في فقد سمراء ) بالمأساة الاجتماعية ( نجاح البندرية في تحقيق التحول السلوكي لدى ابنتها ابنة القرية ) ، الأمر الذي دفع البطل إلى صنع معادل نفسي بالتحول من محبوبته المتغيرة ذات الجسد الفائر والضحكة العالية والبنطلون الضيق والمظاهر السلوكية التي تركها الكاتب مشرعة للتصور ؛ إلى جسد من طين يحفظ للكاتب كل مظاهر الفطرية التي كانت تعيش فيها القرية والتي خشي عليها من الذوبان في الماء أو الخروج إلى عراء الطاحونة ( الحياة خارج المكان / عشة إدريس ) هرب بها إلى صندوقه ، والصندوق معادل خارجي للنفس ، وكأنه هرب إلى داخله كما سبق لهما أن هربا معاً من واقعهما إلى عشة إدريس ، فعشة إدريس كانت المكان الأشد اتساعاً من النفس المنفردة واستطاعت أن تجمع بين أحضانها السليبين : البطل الذي فقد أمه ، وسمراء التي تُوقع عليها أمها البندرية أنماطاً من التربية تُلزِمُها بأن يظل ثوبها وشعرها لامعين .. ؛ وهو أسلوب لا يتناسب مع مجتمع الطين .ويلاحظ القارئ منذ الوهلة الأولى أن قصة ( دكة المقدس يوسف ) للأديب محمود الطهطاوي : قصة يتسيد فيها المكان ، الذي هو البطل الأول والشخصية الرئيسة في مشهدية القصة الموغلة في تاريخ المكان ، والمجسدة لقيمته ، المبرزة لنمطه ، المشيدة بما اضطلع به من دور في صيانة الوحدة الوطنية وتربية أبناء شارع المصري عليها ، من خلال ما تعرضه القصة من استدعاءات وجدانية لمرحلة طفولة الكاتب .وقد نبعت أهمية تلك ( الدكة ) من الإخلاص الذي كان يتسم به أهل شارع المصري وتفانيهم في الصدق مع أنفسهم وأثرتهم بعضهم لبعض ، وحرصهم على استمرار القيمة ودحر الشر ، لقد كان المقدس يوسف ينهر أحمد ابن الشهيد الحاج عثمان ، جاره وصديقه وزميله في حرب الصهاينة ، ويقول له :” والدك كان يصلي الصلاة في وقتها ولا تفوته جماعة أبداً .. “ ثم يربت على كتفه ويحتضنه قائلاً :” يا بني نحن لا نملك إلا إيماننا بالله ، هو رصيدنا الباقي ..“.وإذا كانت الملاحظاتُ أموراً يسيرة الإدراك فإن الاكتشافات بحاجة إلى تعمق نظر وحساسية وعي ، لكن المتلقي لتلك القصة سيكتشف دون عناء أن المكان الذي يتسيد المظهر الأدائي للنص القصصي ليس هو مكان دكة المقدس يوسف ، وإنما المكان هنا هو الدكة نفسها ، تلك التي لا تفارق مكانها تحت كرمة العنب أمام باب منـزل المقدس يوسف الكائن في نهاية شارع المصري ، تلك التي تعَوَّد الأولاد اللعب بالقرب منها ، ومن حولها يتحلق الرجال جالسون يتسامرون ، ويتعاتبون ويحلون مشاكلهم ، فهذه الدكة بمثابة حصن الأمان الذي يمنع تفاقم الخصومات وفي ظله يأمن الأطفال فيلعبون مرحين ، فالدكة هنا ذات دور اجتماعي ونفسي مهيمن ومهم ؛ وقد شاكل الكاتب بهذا المفهوم رؤيته حول الفعل والاجترار وحاول أن يستغل هذه الفكرة لتقديم صورة لواقعنا المعاصر ومحاولة المقارنة القيمية بين الماضي والحاضر ، فأيام الدكة كانت كلها سمر ومرح ونصر ( في أكتوبر 1973م ) حتى عندما فقد البطل والده في الحرب وجد في المقدس يوسف البديل عن ذلك الوالد الحنون ، في ظل مجتمع يسوده الإخاء والتلاقي الإنساني في شارع المصري ، ومع تغير الزمن وتطور الأوضاع الحضارية رفع المقدس يوسف الدكة ووضعها في المخزن ، كما رفعنا مع الانفتاح دكك القيم والعادات والتقاليد والإخاء والتلاقي الاجتماعي والأثرة ، ووضعناها في جانب قصي من مخازننا كما نضع الأشياء البالية ، وبرفع الدكة ينتهي زمن الفعل ليبدأ زمن الاجترار ، يقول الكاتب : ” كثيراً ما كنت أقف تحت الكرمة .. مكان الدكة .. فتتداعى الذكريات “ ؛ فالكاتب أراد برفـع الدكة الإشارة إلى التبدل الشامل الذي لم تعبث قسوته بالشخصيات فقط وإنما بالمكان أيضاً ، فقد حدث التبدل المكاني ، فالمكان الذي كان هو البؤرة الفاعلة في شارع المصري ( الدكة ) التي يجتمع الناس في سمر حولها ؛ تحول إلى الأرض مكان الدكة ، وكأن الكاتب يريد أن يماثل بين المكان المأهول والمكان الخرب ؛ يقول الكاتب على لسان المقدس يوسف : ” زمن الدكة بالنسبة لي راح وانتهى .. أخد كل شيء وراح .. ومش باقي لي غير الذكريات “ ، وقد وضع الكاتب البدائل الكثيرة للدكة في المجتمع الجديد بلا جدوى ، فالشوارع متسعة لكن الأولاد لا يلعبون في الشوارع مثل أولاد الدكة ، لأنهم حبيسوا الشقق المغلقة ، ثم يعدد الكاتب الألعاب التي كانوا يلعبونها فنتأملها فإذا بها مراحل التحول الاجتماعي من عصر النصر إلى عصر الضياع : فالأولاد كانوا يلعبون عسكر وحرامية ، وفي هذه اللعبة لابد وأن ينتصر العسكر كما انتصرنا في حربنا ضد المغتصب السارق للأرض والكرامة العربية ؛ ثم لعبة سباق حصان البوص ، وحصان البوص هش يمكن كسره بيسر شديد في إشارة للتحولات الاقتصادية والسياسية التي شهدتها مصر في عصر الرئيس السادات ، ثم لعبة أوِّل حول ، وهي لعبة تتم فيها إبدالات كثيرة بين الأشياء والأشخاص والأماكن ، ثم ينهي باللعبة الأخيرة لعبة الأستغماية التي لابد وأن يغمض اللاعب الرئيس عينيه حتى يمر اللاعبون إلى مخابئهم ثم يفتح عينيه وكل منهم يتربص لاقتناص ( الريد / أي الهدف المكاني المحدد سلفاً في اللعبة ) ، وكأن اللاعبين نسخة من أولئك اللذين يصدق فيهم قول العامة : ( حرامية شغل حكومة .. تسرحهم وقال إيه .. عاوزة تلمهم ) .لكن الكاتب في لحظة جمالية رأى أن يجعل كل شيء جميلاً، وأن يزيح ما على الدكة من التراب ويعيدها إلى مكانها تحت كرمة العنب ليجلس عليها كل مساء، ومِنْ حوله الأولاد يلعبون ، لكنه لم يذكر شيئاً عن مدى تساوق هذا الوضع مع السمات الانعزالية للمجتمع الجديد ، الذي يمقت الجلوس في الشارع..في شارع المصري.** المكان المفتوح والمكان المغلق :المقابلة بين المكان المفتوح والمكان المغلق هي التيمة التي تطفر في كتابات أهل الصعيد بخاصة عندما يتماس عالمهم مع عالم القاهرة المفتوح المزدحم الذي يمثل لأهل الصعيد في بعض الأعمال حالة للمجتمع المغلق في مقابل مجتمعه الرئيس في الصعيد الذي يمثل المجتمع المكاني المفتوح المتسع الأرجاء الذي يملك السكينة والهدوء ، ويجسد محمود الطهطاوي هذا المفهوم في قصته ( الوسادة ) التي تحكي عن انتقال الكاتب إلى القاهرة في مهمة طارئة - غير دائمة - شعر خلالها بعدم الراحة في الفندق بسبب الوسادة المنتفخة ( على الفاضي ) وهو الذي لا يستريح إلا إذا وضع رأسه على وسادة عالية ، ثم يطور هذا الحدث درامياً ليجعل منه سبباً في الشعور بالاغتراب والحنين إلى وسادته التي يجد فيها الراحة ويحس معها بالشموخ ، ثم لا يجد منقذاً له إلا برج القاهرة الذي يرفع رأسه في السماء بشموخ ، وكأنه يشير إلى تماس البرج بوصفه حالة مكانية مع عالمه المكاني الحميم في الصعيد ، لأن الذي بناه هو الزعيم جمال عبد الناصر ابن الصعيد .
** المكان المغلق :
إن التضاد بين المكان الضيق والمكان المفتوح يظهر جلياً في أعمال الكاتبة جمالات عبد اللطيف ، وبخاصة تلك الأعمال التي تحكي عن وجود نسائي يقاوم مجتمع يملك أكثر من دائرة احتجاز تنداح كلها بعضها داخل بعض كدوائر الماء عندما يلقى فيه بالحجر ، فالمجتمع القروي له تقاليد صارمة في تربية البنات وله تقاليد صارمة في الحد من حركتهن شابات وله تقاليد صارمة تدخل البنات إلى دائرة الصراع وتحولهن إلى كبش فداء لا يزيد عن العجول التي تذبح بهجة لحدوث الصلح بين العائلتين المتناحرتين فتجعل إحدى بنات هذه العائلة هدية سلام ، فتزوجها مرغمة من رجل من رجال العائلة الأخرى ( كما في الركض فوق هضاب الشمس ) ، أو تختطف حلمها من الزواج بمن تحب ( كما في قصتها الطويلة : يا عزيز عيني ) .وفي قصة محاورة للكاتبة هند محمد عبد الرحمن تدور بنية الأحداث حول الغرفة التي يتخذ منها الكاتب عزلة تُقْصِيه عن الناس وعن المشاركة الحقيقية في الحياة الإنسانية البيولوجية ، وتشمل في أبعادها مكانية الكاتب الذي يعمرها ويتخذ منها البديل الكامل عن الحياة الإنسانية الفاعلة ، فالعمر يمر ولا زوجة ولا أولاد ولا رغبة في القراءة وإنما الكتابة فقط ، وهو في ملله لا يكتب وكأنه اكتشف للمرة الأولى ضيق المكان ، وأن الغرفة لن تصلح بديلاً إنسانياً مناسباً عن العائلة .فالغرفة في هذه القصة تمثل المكان البديل الممتلئ بالوهم الذي استبدل به( الكاتب ) – بطل القصة - مكاناً أكثر اتساعاً ، هو ” المنـزل المدعم بالأطفال “ – على حد تعبير الأديبة – ذلك المنـزل الذي يظل في دائر التمني ولا يعاود الظهور إلا إشارة وتلميحاً بوساطة تعبير الكاتبة في نهاية القصة : ” محاولاً احتضان بقاياه “ ، أي بقاياه الإنسانية من عمر وقوة وأمل لتكوين حياة عائلية ، وبناء الأركان المعنوية والوجدانية للبيت الذي يطمح في استبداله بغرفته الضيقة ؛ وهنا تُبْـرِزُ الكاتبة في تغيير قيمة المكانِ : المفهومَ الفلسفي الذي يقول : ” إننا لا نرى إلا ما نعرف “ ؛ فقد حول ميل البطل إلى الحياة العائلية والمنـزلية رؤيته لغرفته التي عاش فيها الليالي والسنوات الطوال متأملاً قارئاً كاتباً ؛ تحولت الغرفة إلى النقيض في غمرة بحثه عن” الحبيبة التي تبعثر الدفء في أرجاء هذا المكان المهجور “ الذي لم يبرح حالته الأولى منذ انقطاع البطل إليه ؛ لكن الاصطدام بالواقع والعمر الذي يمر وعُياء القريحة ووحشة الفراغ ونضوب الذهن وعصيان الفكرة وعدم الرغبة في القراءة كلها مقدمات جعلته يعيد التفكير في واقعه وحياته ، فـ”يصطدم بالواقع ، يجد نفسه سجيناً في جزيرة خيالية ، مبهوراً بما فيها “ ، ثم يُعَلِّقُ أسبابَ هذا الضياع العائلي على مفردتي الغواية ( الورقة والقلم ) ، وتصفهما المؤلفة وصفاً شيئياً مكانياً ، فالورقة ” هي السفينة التي أخذته إلى تلك الجزيرة “ ، والقلم هو الذي ” كان قبطاناً “ على متن السفينة الورقية ، ثم بلغت الأديبة بعملها إلى ذروته الدرامية ، ودفعته للتخلص من الغرفة الضيقة المأهولة المهجورة(8)، فيمسك البطل الورقة والقلم بكل قسوة .. مزقهما .. حطمهما .. تمهيداً للالتفات إلى النفس الاجتماعية الطامحة إلى تكوين بيت عائلي فسيح مأهول أبداً بالأجيال المتلاحقة ، وكأنه في تمرده على عزلته واحتباسه في غرفته إنما يدرك آخر أنفاس العمر قبل أن تنفرط من عقدها وتتناثر في وحشـة الفـراغ ،” محاولاً احتضان بقاياها “ .في ضوء هذا الفهم نجد القصة ترسو بكليتها على الأرض مكاناً وزماناً ، وتتجسد عبر كل معطياتها في فرد معزول وعاجز مستلب بمعنى أن المكانية في هذه القصة لا تنشد العلو ولا الترقي كما قي قصة ( الوسادة ) للأديب محمود الطهطاوي ، ولا ( في ذكرى سيدي المغني ) للأديب خالد أبو النور ، قدرما تنشد مكاناً متاحاً على الأرض .. أرض الواقع الذي انفصل عنه الكاتب – بطل القصة – حبيساً بين جدران أحلامه ورؤاه وتطلعاته وأفكاره ؛ فالقصة ترسو على مشارف الوحدة / العزلة ، والغرفة / البيت ، مع شمولها - رمزاً وواقعاً - للمحيط الاجتماعي لها ؛ هي إذاً قصة وإن امتلأت بعمق المكان ودوره وفاعليته ، إلا أنه لا تأويل مكاني فيها بقدر ما تفصح عن هوية المكان المألوف والكائن الذي يشغل حيزاً منه ، في البيت وفي الجسد ، وعن الإنسان المستلب المعبر عنه بالكاتب في عزلته والوحدة ؛ وتوظف الكاتبة هند محمد عبد الرحمن ضيق الغرفة لخدمة التجربة والكشف عن البعد النفسي اللاشعوري لشخصية الكاتب البطل ؛ كما توظف فكرة العزلة الاجتماعية وانعكاساتها النفسية داخل إطار المكان المغلق ؛ فعلم النفس الاجتماعي يقول : ” إننا كلما زاد احتباسنا في عزلة الذات ، وفي عجزنا عن التجاوب الوجداني مع المجتمع ، زادت نذر كارثة اجتماعية لا يمكن تجنبها إلا بالتغيير ، إذ يجب أن نعود سادة للحياة ، بعد أن تحولنا إلى عبيد لذواتنا “(9) ؛ لكن المحتمل دائماً هو أن نهرب من كارثة الجمود ، فنواجه كارثة التغيير ، ما لم نكن نمتلك التوجه المقنن لهذا التغيير ؛ وهو ما حدث مع البطل / الكاتب الذي انقطع للكتابة محتبساً نفسه في عزلته عاجزاً عن إحداث تجاوب اجتماعي مع الخارج ( = خارج غرفة الكتابة ) .وفي قصة ( الوسادة ) للطهطاوي يكشف الكاتب عن مدى إحساسه بالغربة المكانية التي لا يجد مهرباً من خُنَّاِقها إلا النافذة ( الشُبَّاك ) ، المنفذ المكاني الذي يأخذه إلى سطح مستشفى الأنجلو الذي تراكمت عليه الأشياء المهملة ، وبرج القاهرة الشامخ الذي يعيد أهل القاهرة إلى حجمهم الحقيقي فهم فيه ليسوا سوى عصافير صغيرة ، كالقاهرة التي يراها مغلقة ؛ فالقاهرة عند محمود الطهطاوي ليست سوى مكان هامشي؛ بل إن الكاتب لا يقر له بالمكانية ، فهو عندما يعرض له: يحوِّل دلالته إلى دلالة زمنية، أو مجردة:”ليالي القاهرة“..،”يقف شامخاً وسط دخان القاهرة الخانق“.
** القيمة الاستبدالية للمكان :
لم تترك الكاتبة هند عبد الرحمن القيمة الاستبدالية للمكان دون الإفادة منها ، فقد استخدمت الأسلوب الإبدالي في قصة ( صائدة القلوب ) حيث هربت ببطلها من واقعه المكاني الذي يملأه الحزن ” الذي بنى أعشاشه في كل ركن من أركان البيت “ ، إلى طفولته المختبئة بين أوراق الشجر ، تقول الكاتبة : ” قلبه يتمايل بأغنية ذكرته ببلده وطفولته ؛ فأخذ يبحث عنها كل يوم إلى أن لمحها بين أوراق الشجر“ .أما الكاتب محمود الطهطاوي فقد عني باستخدام فنية الإبدالات فتحولت - في قصته (الوسادة) - مفرداتُ الواقع إلى أماكن ، فالراديو يبحث فيه الكاتب عن نجاة الصغيرة أو أم كلثوم ؛ ورواية الكاتبة نورا أمين ( قميص وردي فارغ ) ليست سوى مكان مزدحم بالإبدالات المكانية مثل إخراج اللباد والقميص المكتوب الذي استطاع الراوي أن يدخله بوصفه بنية مكانية ، فالكاتب هنا يحول مفردات الواقع المحيطة وتفاصيلها إلى ما يشبه المكان الذي يعمره سيل من المفردات المتأهبة للتحول ، إلى المشاكلة بالصفة المكانية ؛ ولعل هذا الأسلوب هو أهم ما يميز تلك القصة ؛ أسلوب التحديد الصارم للمكان بدءاً من السرير والوسادة ومروراً ببائع الصحف والوصف الدقيق لمكانه المقابل لمدبولي في طلعت حرب ، وكذلك سطح مستشفى الأنجلو ؛ هنا تحديد حتمي في بنية يمكن أن تفلت عناصرها من الكاتب إن لم يكن متمرساً ؛ فالإبدالات - كما هو واضح - شديدة الحساسية ، تتحول في سياقها المفردات إلى صيغة مكانية : الإنسان ، والكتاب والراديو والسرير والوسادة وبائع الصحف ومساحة الفراغ من الأرض مصعداً نحو السماء ، حتى الرأس تحولت إلى مفردة مكانية يدور حولها عدد من الصور المكانية .أما بقعة أبي العز عند مدخل قرية ( سيدي المغني ) فقد حدث لها إبدالات رمزية ودلالية شديدة الاتساع والحنكة على يد كاتبها خالد أبو النور ، فقد بدأت بقعة أبي العز ببقعة دم حمراء كبيرة تنذر بعفريت أبي العز يخرج عليهم منها ليقطع عليهم الطريق فلا يدخل أو يخرج من القرية أحد ، ثم تمادوا في سلبيتهم فلم يفعلوا شيئاً إلا أن دفنوه في بقعته بملابسه ، فصارت البقعة قبراً مخيفاً ينذر القرية بالرهبة والشرور ، ثم في تطور جديد وجدوا الكلاب التي أكلت قلب ولسان أبي العز - وما المرء إلا بهما – صارت كلها أبا العز ، وفي القصة دلالة رمزية على اطراد مفهوم الحارس وحراسته للقرية وتجدد الأدوار وإمكان الحلول والتناسخ .. إلخ ؛ فالكلاب قد هجرت ماء البركة النجس وأقلعت عن التبول على جدران البيوت ، وصارت تهيم في جنبات القرية تغني غناء أبي العز ” أنفخ مزماري .. وأُصغي لصوته .. .. وأنقر دفي فترقص طينتي “ ، لتبدأ مرحلة أخرى عند بقعة أبي العز إذ وجدوا الكلاب مذبوحة ومقطوعة الألسنة ، ثم بدأت فكرة الضريح للمغني والكلاب .. وكلها مراحل استبدالية حاول أهل القرية بوساطتها درأ الرهبة عن أنفسهم والاطراد في ضلالهم وسلبيتهم .هذه القيمة الاستبدالية تبلغ ذروة عملها عندما تأخذ في أبعادها القيمة الزمنية والإسقاطات الرمزية العميقة ذات السند الجماعي الذي لا تُخطئُه الأفهام وبخاصة إذا كانت الإشارة والإيحاء والرمز فنيات تتجه بكليتها إلى الهم المشترك لأهل المكان مثل التردي العربي والكرامة الضائعة والوطن السليب ، ففي بعض الأحيان ” نعتقد أننا نعرف أنفسنا من خلال الزمن ، في حين أن كل ما نعرفه هو تتابع تثبيتات في أماكن استقرار الكائن الإنساني الذي يرفض الذوبان ، والذي يود حتى في الماضي- حين يبدأ البحث عن أحداث سابقة - أن يمسك بحركة الزمن ؛ إن المكان ، في مقصوراته المغلقة التي لا حصر لها ، يحتوى على الزمن مكثفا ، وهذه هي وظيفة المكان “(10) التي تمثل عند الكاتبة جمالات عبد اللطيف المعادل الرمزي للوجود ، فقد تحولت الشخصية السليبة الحبيسة إلى شخصية فاعلة عندما كفت عن مطالعة السور من نافذتها ونزلت إلى الفناء لتمسك بشاكوش تحاول به إحداث كسر في السور الحجري ، وكأنها بذلك تحدث تحولاً في الوضعين المكاني والنفسي لها ، فمنفذ السور يعني التحول نحو البراح والانطلاق كما يعني التخلص من السجن وكسر القيد المكبل لحريتها المستلب لآدميتها.
** المراوحة بين الصورة والدلالة ( الرمز المكاني ) :
اهتم كتاب نماذج الدراسة باستخدام فنية الرمز المكاني بوساطة المراوحة بين الصورة والدلالة ، وأكثرهم عناية بالرمز المركب المقصود فنياً الكاتبة المتمرسة جمالات عبد اللطيف والأديب المتميز خالد أبو النور .فقصة ( طبل الشيخ رشوان ) للأديب خالد أبو النور تفصح عن مستويين فكريين الأول هو المستوى الاحتفالي للقرية بوصفها مكاناً له طقوسه الاجتماعية والبيئية الخاصة التي يحرص على إقامتها ورعايتها ؛ أما المستوى الثاني فهو المستوى الرمزي الإشاري الذي يجسد الكاتب من خلاله حالة خاصة من وجهة نظره هو ، بوصفه راصداً ، تلك الحالة له عدة مستويات من بينها البعد القومي العربي .وفي قصتها (الركض فوق هضاب الشمس ) فقد استخدمت الكاتبة جمالات عبد اللطيف المستوى الرمزي الذي ينطلق من التوحد بين الحبيسة وفلسطين عبر تتالي صور الإحباط والقهر والظلم ؛ فتقوم بنية القصة على المراوحة بين مستويين للأداء الفني أولهما المستوى السطحي الذي ينقل صورةً للمرأة في بيئة الصعيد وما تلاقيه من امتهان من أهلها بالزج بها إلى أتون المنازعات وتحويلها إلى هدايا صلح ، وما تلاقيه بعد ذلك من مهانة تجعل حياتها دائماً في مهمة استثنائية لإبراز قدرة الرجل والتأكيد على سلطته وتسيده للكائن والمكان ؛ أما المستوى الآخر فهو المستوى الذاتي / الرمزي حيث يختلط في ( الركض فوق هضاب الشمس ) الوضع السياسي العربي الفلسطيني الذي ترمز له الكاتبة بالكيان الحبيس الذي يمارس سجانه ضده كل أنواع الامتهان والقهر والتعذيب مُنَفِّساً عن السادية التي تتملكه ، وحصاره لها داخل مكان ضيق يعزله عن البراح سور من حجارة يلف المكان ليس فيه منفذ إلا باب عليه أقفال مفاتحها في يده لا يفتح إلا له هو وبإذنه ، اختلط هذا البعد السياسي بالبعد الاجتماعي الذي تشكله قيم المكان في الصعيد من عادات وتقاليد ؛ وقد تمثل هذا البعد في الوضع الذاتي لامرأة حبيسة جدران بيتها يغتصبها زوجها ويستعذب إهانتها وتعذيبها ولا ينالها إلا بعد أن يضرب رأسها مرات في الحائط حتى تفقد الوعي ثم تصحو لتجده في قمة متعته وهي ملقاة في موضع قصي وقد لحقتها المهانة الكبرى ، فهي الكيان الإنساني الذي حمل في تفاصيله أبعاداً سياسية واجتماعية ، تداخلت فيها قيم الذات مع قيم المجتمع ، ومتطلبات الأداء الأدبي بمتطلبات القضية السياسية في بُعد ومستوى أدائي ، والقضية الاجتماعية للبيئة التي تنتمي إليها في بُعد ومستوى أدائي آخر ، ولا يمكن للمتلقي التعامل مع مستوى من مستويات القصة دون التعامل مع المستوى الآخر ؛ لأن القصة عندئذ ستفقد الكثير إن لم تفقد سندها الرئيس الذي تصبو الكاتبة إليه في الوهلة الأولى ، وهو يمثل في كتاباتها الخط الأول في بنية النص الأدبي ؛ فإن أهم ما تمتاز به كتابات الأديبة جمالات عبد اللطيف هو الاهتمام البالغ بإبراز علاقة القرية بأهلها وأثرها في تكوينهم إضافة إلى ارتباط القرية بالأوضاع الاجتماعية في المستوى الظاهري لنصوصها ، والأوضاع السياسية في المستوى الرمزي لتلك النصوص .أما محمود الطهطاوي فعندما فَقَدَ شرط الالتزام الشكلي بمظاهر نومه فَقَدَ معها الالتزام الإشاري ذي العقدية ، فكان ينام على جنبه الأيمن وتحول إلى النوم على ظهره عند فقد الارتفاع والاكتناز المناسب للوسادة تحت رأسه .وفي قصة ( المغيب ) يعرض خالد أبو النور قصة القرية المغيبة في لحظة مغيب شاملة ؛ إنهم يعيشون حالة من الاغتراب الجماعي ؛ لكن قمة عمل الكاتب في هذه القصة تكمن في تأكيده على الحقيقة الواقعة التي نعيش فيها الآن ، فكيف يقول : إن عوضاً قد عاد وهو في الحقيقة لم يعد ، ولم يعد لنا الانتماء ، ولم تعد لنا الأرض السليبة ، ونشعر أننا بحاجة إلى الانتماء على الرغم من رغد الحياة ودعتها ولينها أو انشغالنا في ضيقها وشقائنا ، فالوطن المفتت إلى قرى ، والقرى المفرغة من الانتماء ، لما يزل الجميع فيه بحاجة إلى عوض الذي يخلق وجوده الأمن والاكتفاء ، فهو الذي سيحقق لنا الذاتية ، ولن يقوم مقامه دعم خارجي حتى وإن أتانا من جوف الإنسانية / الجبل يمسك الخبز بيده ويحمل على ظهره قربة ماء ويقدم للجميع عونه باسم الإنسانية إلا أنه يسلبنا الكثير ، ولن يعوضنا عن انتمائنا المفقود ، يقول الكاتب : ” كأن فارساً يخرج من جوف الجبل .. بيده الخبز وعلى ظهره قربة ماء .. يعطي كل الناس “ ؛ لذا سنظل نبحث عن الرابط المكاني الذي يجمعنا مثلما كان يجمعنا عوض .والمكان في قصة المغيب عنصر ذو فعالية مهيمنة على الحدث ، وموجهة لفتيات المعالجة داخل النص ، وهو غير منفصل عن البعدين الإنساني والزمني وذلك من خلال الربط التام والامتزاج بين المكان ووسيطه عوض ذي الصفات المشابهة للمكان ، فعوض ابن الزمن : طرح السنين وصاحب الملامح الجامدة ، تمخض عنه الجبل لذا له لونه وصلابته ، وعوض هو القائد الذي يربط بين المكان وأهله ولكن صيغة الغائب التي تحكي بها القصة عن عوض تدل على حدوث حالة الانفصام بينه وبين المجتمع الذي كان يطمح في قيادته للهدى ، مع ملاحظة استخدام الفعل المضارع مع أسلوب الفلاش باك عند طرح صور الطمأنينة والأمن التي كانت تنعم بها القرية ، والتي ذهبت بذهاب عوض : ” كل القرية تحب خادمها الأسود ، لا معنى لليل بدونه يخرج متقدماً النساء ناحية الترعة والخلاء لقضاء الحاجات فيمشين في اطمئنان في حراسته وننام أبواب البيوت مفتوحة ، فمن وجوده ينبع الأمان ؛ وكان عندما يأتي المخاض إحدى النساء ليلاً ؛ ترفض الداية الخروج من بيتها إلا معه ، حتى البهائم لا تلد إلا في حضوره وبأنفاسه “ . هنا إغراق في المزج بين البطل بشرطه المكاني ، وبين القرية ، وإغراق في رصد حالة الانتماء للبطل والحرص على وجوده بوصفه رمزاً للصيغة المكانية ، فالبطل وإن لم يولد في القرية تحديداً إلا أنه البديل عن الغائب أو الشيء المفقود ، وهو كذلك يمتلك صيغة أكثر شمولاً من خلال ما بينه وبين الجبل من شبه ، فالجبل امتداد يحرس القرى بشموخه وصلابته ، وهو أعلى منها قيمة وقوة وهيبة ومكاناً ، ويحول الكاتب الرمز في قصته من أفقه الضيق ( القرية / البلد ) إلى مفهوم أكثر اتساعاً هو مفهوم ( القرية / الوطن الكبير ) فالقرية ليست مصر بل هي الوطن العربي الكبير .وعوض ( المغيب ) هو نفسه مغني الضريح في قصة ( في ذكرى سيدي المغني )؛ فالمغني ليس فرداً امتهن الغناء بل هو كيان أيديولوجي اجتماعي مستلب يعوضه المجتمع بالوهم ( الضريح ) ؛ ثم يرتفع "الضريح" من كونه نُصُباً مقاماً على مساحة ضيقةً من القرية إلى قوة تحرس الكيان الاجتماعي والإنساني للقرية ؛ فكما يتوحد الفراغ بالعقلية المكانية ؛ يتوحد كذلك أهل المكان بالتغييب الكامل الذي يصل بهم إلى التوحيد بين المغني وكلابه الأربعين اتحاداً يعكس جانباً من حساسية الثقافة الشعبية في تلك الحقبة التي يسجلها خالد أبو النور ، ودفعته رؤيته للوعي المستلب إلى سحب شروط تلك الرؤية على البيئة بأكملها ، لأن الضلال لا يلد إلا ضلالاً ، فنتاج عام كامل من الأطفال تحول إلى نسخ من شخصية المغني بأبعادها التي تدركها القرية ، حيث أطلقوا على كل من ولد في عامهم الذي انهار فيه الضريح ونبشت فيه قبور المغني والكلاب اسم ( أبو العز ) المغني ، فكانت النتيجة الدرامية أن احتضنت البلدة من جديد أربعين شيخاً ضريراً كلهم ينشدون ما كان ينشده أبو العز : ” أنفخ مزماري ، وأُصغي لصوته .. وأنقر دفي فترقص طينتي “ وكأن الكاتب يريد من هذا النص الموجز أن يضيف لحظة تنوير تشير إلى أنه وإن زمر فيهم ونقر دفه إلا أن أحداً لا يدرك فهو فقط من يسمع صوت مزماره وهو وحده من يرقص على إيقاع دفه ، وهنا يتماس دور أبي العز المغني بوصفه مخلصاً مع دور عوض الذي يحمل سماته نفسها ، بل إن الكاتب يصرح في حديث شخصي لي بأن أبا العز هو عوض نفسه .هذا العمى المطبق على الواقع جعل القصة ترسو فوق أرض تتقاذفها أهوال الضلال والتردي في مكبات التخلف والحرص عليه من خلال الحرص على بعث الأسطورة وإعادة الوهم إلى المكان من خلال إسباغ أبعاد شخصية أبي العز على أطفال القرية ، فكلهم جاء إلى الوجود ضريراً ، أربعون طفلاً (11) ، منهم من استهل الحياة بالغناء مردداً إنشاد أبي العز ، ومنهم من استهل الحياة نابحاً ككلابه ، وإن بدا ذلك بأنه قدرية غرائبية ، إلا أن الحقيقة أن ما تم لم يكن إلا إرضاءً للحالة النفسية الشعبية لأهل المكان المفقود ، وأمنية اختلط فيها الوهم بالرغبة الجامحة لاستعادة ( مولد أبو العز وكلابه ) بخلق نسخ من أهل القرية للجانب الذي رأوه أو أرادوا أن يروه في أبي العز ، فصار كل شىء في أمكنة ( سيدي المغني ) مستلب ومُغيب ومغطى بالعمى والظلمة ، ولعل هذا المناخ من الضلال الملتبس بالفوضى هو الذي حول ضلال بصيرة المخلص الشيخ أبو العز ، الذي كانت تهب عليه الكلاب الضالة تحاول الفتك به ، ولكنه بنور بصيرته - وهو أعمي البصر - كانت حجارته دائماً تسبقهم ولا تخطئ طريقها إلى رؤوسهم ، لكنها بعد غلبتها عليه استطاعت الكلاب الضالة أن تتمثل في صورته مرتين ، في المرة الأولى عندما أكلت قلبه ولسانه ، وفي المرة الثانية عندما جعلت من نباحها بديلاً مادياً لغنائه في استهلال الأطفال الذين أنشد بعضهم ونبح البعض الآخر ؛ فالمأساة قد تغلغلت في أهل المكان ولا سبيل إلى التخلص من ذلك الضلال لأنهم ألبسوا الحق صورة الباطل ، وما زال الماضي حاضراً بشروطهم الضالة ككلاب القتلة ، من خلال أسطورة التناسخ التي حولت أربعين طفلاً إلى مسخ من المغني الذي يرونه داخلهم معيناً على الغي والضلال ، لا المغني الذي كان يطمح في تخليصهم من جمودهم ، ففي ذاكرة المكان عند الضريح شىء من الاسطورة التي حاكها أهل القرية، وغرسوها في الضريح موتاً وولادة، موتاً بعد قتل المغني ودفنه،وولادة عند تناسخ صورته التي يرونها هم له في أولادهم؛وسهروا على روائها وعملوا على إنمائها.والقصة بها سخرية لاذعة من المفهوم لسائد لدى العامة حول الأماكن الحارسة التي تتمثل في القرى ولدى القرويين في ( الأضرحة ) وإن كان الضريح لمغنٍ عربيد وأربعين كلباً ، وهي محاولة يائسة للوقوف على الأطلال ، والنفخ بروح الحياة في مكان مَيْتٍ ، تنكر لهداه وأغرب في سلبيته ، فقد كان "عوض" في ( المغيب ) هو المُخَلِّص اليائس الذي نفض من القرية الغافلة يديه ورحل ، وهو "المغني" الواقف عند مدخل القرية يحرسها ، ثم انقضت فاعليته بنبش ضريحه ، والضريح يشمل في أبعاده الغناء واللهو ، الذي يمثل هوية المكان ومكانته ، هو الدور الذي يؤديه الضريح الذي يرقد فيه المغني ، تلك الشخصية ذات الدور المزدوج ، فهي تعني عند الكاتب المخلص الذي قتلته القرية ( وهو "عوض" نفسه في "المغيب" ، وفي "حارس السوق القديم" وفي "طبل الشيخ رشوان" ) وهو القيمة الرشيدة التي تحولت عند أهل القرية إلى ضلال .ثم ينشد الكاتب مكاناً جديداً يتقبل الخلاص ، لكن مكانه الجديد نفسه سرعان ما يتحول بدوره إلى طلل ، يرزح تحت وطأة أربعين ضريراً لا يرون ، كالمغني المقتول صاحب الضريح .
** الامتزاج بالمكان :
يقول رولان بارت في كتابه "العلبة النيّرة": إن الصورة الشمسية غير معنية بالتذكير بالماضي ، ولكنها شهادة على أن هذا الذي أراه قد كان موجوداً حقاً "فالصورة لا تتحدث عن الذي ما عاد موجوداً ، وإنما تتحدث عما كان فقط . فالوعي لا يتعامل مع الصورة عن طريق الحنين ولكنه يؤكد اليقين. وجوهر التصوير هو التصديق على ما يمثله هذا التصوير".فالامتزاج بالمكان عند خالد أبو النور محصور تقريباً - في معظم أعماله – في العلاقة بين شخصية المخلص وبين القرية ففي قصة ( في ذكرى سيدي المغني ) نجد أن القرية تتوقف فعاليتها وكونها مكان جذب يحج إليه الناس على عامل مهم هو ضريح سيدي أبو العز الدفاف ، الذي يحب كل القرى وكل القرى تحبه ؛ ثم تكشف تفاصيل القصة عن مدى الارتباط بين القرية والمغني الذي يشبه ضريحه الحارس الذي يدرأ عن القرية المهالك والشرور ” فمر الحال بغنائه يحلو ..“، و” القرية بغنائه لم يصبها الطاعون في عام الطاعون“.وفي ( حارس السوق القديم ) نجد السوق القديم قائماً في وسط الميدان ، مقدماً عند أهل المكان على كل شيء ، وعن غيره من الأماكن حتى وإن كان المكان البديل هو الجنة نفسها ؛ وقد وصف الكاتب خالد أبو النور السوق بأنه قديم ليوحي بالأصالة والامتداد كما يوحي بالاستمساك بالإرث والجذور ، وكونه وسط الميدان يؤكد هذه الإشارية ومدى الفاعلية ؛ ونلاحظ التسمية الالتباسية الواصفة هنا ، وهي تدل على الامتزاج الشديد كذلك ، فمن القديم هل هو الحارس أم السوق ؟ والوصف بالقدم هنا وصف امتدادي يشي بالجدة والأصالة لا البلى والتخلف ، والربط بين المكان وحارسه ربط إشاري كالربط بين الأصالة والانتماء وبين وجودنا ، وقد بلغ الامتزاج بين المكان وحارسه مداه لدرجة دفعت الحارس إلى أن يوصي ابنه بدفنه في قلب السوق عند موته ؛ فقد بلغ الارتباط بين الحارس وبين المكان ذروته ، فالحارس يشغل دور الرقيب والرقيب تنبذه النفسية المنغلقة التي تكره انكشاف خبئها ؛ فكل الناس ينتظرون موته ، وينير الكاتب أبعاد تلك الشخصية المكانية التي نكتشف في النهاية أنها هي المكان نفسه ، فالحارس الرقيب لا يملك إلا مقياساً واحداً هو مقياس الحق ، لذلك صوته جهوري لا يئـز ولا يهمهم ، بينما الناس تشيع فيهم الفوضى والبهمة وعدم الوضوح ، فعندما يجتمعون يُسمع لهم ” أزيزٌ كأزيز النحل ، وتغشى المدينة الهمهمات“ ، وقد بلغ فرط امتزاج الحارس بالسوق إلى أنه إذا عاد بعد غيبة ساعة ، لا يقر له قرار إلا إذا اطمأن على استقرار العناصر البيئية من حوله ، حتى جاء اليوم الذي ” سبقته الشمس إلى السوق وانتظرته بلا جدوى ، وظلت تبحث والناس عنه ، ولكنهم لم يجدوه ؛ فذهبت هي إلى مغيبها وانصرف الناس إلى مشاغلهم .. وبات السوق القديم بلا حارس “ .. ، فاستخدام حرف الفاء للربط في قوله ( فذهب ) له دلالة صريحة وذات وضوح جلي يؤكد عليها ثقتنا في الكاتب وقدراته الفنية ، فالفاء تفيد في اللغة الترتيب والتعقيب إذ لا حائل بين ما قبلها وما بعدها ولا فوارق زمنية فهؤلاء عندما لم يجدوا الحارس ذهبت الشمس إلى المغيب صباحاً والناس إلى مشاغلهم بعيداً عن السوق بعد أن كانت تلك المشاغل فيه ، في السوق الذي هو في الأصل مكان البيع والشراء والربح والخسارة .. ؛ وأكد الكاتب مفهوم الضياع بجملته : ” وبات السوق القديم بلا حارس “ ، فيتجلى عند هذه العبارة الختامية أن السوق القديم إنما صار قديماً بعد وفاة الحارس إذ انقضى السوق بقضاء حارسه وانتفى دور السوق بفنائه ، فهو الذي بلغ أقصى حالات الامتزاج المكاني مع السوق الذي يحرسه .ويبرز الكاتب محمود الطهطاوي في قصة ( الوسادة ) ارتباطه الشديد بالمكان الخاص ( مكان النوم ) ؛ وما عاناه من فقد وقلق عند هجره وسادته إلى وسادة هشة في القاهرة ، تلك التي يراها مدينة زمنية مجردة لا تستحق الصفة المكانية ؛ فالراوي عندما يضيق بالوسادة الممتلئة بنسخ مكررة لشفاه غليظة محتشدة بالرغبة وبها كلمات بلغة أجنبية وهو لا يجيد لغة أخرى غير لغته ؛ يراها وسادة غير مناسبة لشروط راحته التي اعتادها في بيته بالصعيد ، فهي هشة واهنة غير وقورة فيها اغتراب لغوي ممزوج برائحة التنكر للانتماء العربي ؛ فيهرب إلى الإبدال ، من خلال التحول القيمي ، فلا راحة له إلا إذا عاد – وهو ابن الصعيد – شامخاً مثل برج القاهرة الذي لم ينقذه من دخان القاهرة الخانق إلا شموخه وعظمته وترفعه عن أرض القاهرة ؛ لكن هذه الحدة والعنصرية في النظر السلبي للقاهرة لا يغرر بنا فنظن أنه نابع من فرط ارتباط الكاتب بمكانه الأول وبيئته الأم الصعيد ، فما توحي به القصة في تفاصيلها هو على خلاف ذلك ، فارتباط الكاتب بمكانه الرئيس ليس قوياً بل يظل أقل حدة من عدائه للمكانية القاهرية ، فهو يُلبس على القارئ السطحي بعبارة ” عندما أغير مكان نومي أصاب بالأرق “ ، فقد كشف بعد ذلك أنه اعتاد هذا الأرق ، فهو إذن أرق غير مقلق ، ثم يعود ليهز عادة تعودها في مكانه الأول ، هذه العادة هي الحمام الساخن ، فالماء في حمام غرفته بارد إلا أن وطأة السفر أجبرته على التنازل عن شرط سخونة الماء ، وأخذ حماماً بارداً ، ويصف الكاتب ذلك الحمام بقوله : ” الماء البارد أصاب الجسد المنهك بقشعريرة ورِعشة أَحَسَّها تخرج من روحه ، ولكن سرعان ما اتسق الجسد المنهك وتأقلم مع الماء ، فوجدتني أشعر بسعادة دفعتني إلى الدندنة وإلى السرحان كالعادة في كل ما يهم ذاكرتي المشحونة بالكثير “ ؛ لنكتشف أن عادته التي بنى على فكرة استلابها قصته ، ليست سوى مسوغ ادعائي لطرح الصراع الوجداني الرافض للقاهرة ، فالعادة ترتبط بالشخصية التي اعتادتها فإما أن تكون الشخصية قديرة على تجاوز أسر الاعتياد مطلقاً ، وإما أن تكون عاجزة أمام عاداتها تلك ، عندئذ يمكنها التنازل مطلقاً عن كل العادات في حالة القدرة ، ولا يمكنها في حالة العجز ؛ والشخصية الرئيسة في القصة تملك القدرة على التنازل عن العادات ، بل والامتزاج مع العادات الجديدة ، والتعايش مع الواقع البديل ؛ ويؤكد الكاتب ذلك عندما يشبه حمَّامه بقوله ” كأن الجسد دخل حاجاً وخرج كما ولدته أمه ، بكراً ، خالياً من الأدران .. فعل الطهر هذا يجعل الجسد يمتزج بالروح فتشعر بتلك النشوة وأنت منسجم مع الماء “ ، هذا الكاتب القادر على التخلص من أسر العادات بل المنسجم مع الحالات البديلة للعادة ، ما المسوغ الذي يجعله يشعر بالأرق ، إن المبرر الوحيد هو النظرة الرافضة للحياة في القاهرة والتي لا تتعارض مع سعي ابن الصعيد للطهر الظاهري ( الحمام ) والنفسي( تشبيه الاغتسال بالحج ) ، ويساند هذه الرؤية سكينة الراوي ومحاولته الاستغراق في النوم رغم التواء العنق بعد تشبهه بالبرج وتمثله حالة شموخه ، فقد نبعت تلك السكينة من اجتلاب مساندة بيئية من مكانه الأول ؛ فالبرج الذي بناه جمال عبد الناصر جعله يتساءل ” لماذا لا أفعل مثله وألقي برأسي على وهج الوسادة الواهنة بشموخ وعظمة“؛ فتبرز الإشارة إلى الارتباط الأكثر اتساعاً بين الكاتب وبين طهطا وتهميش مكانية القاهرة على الرغم من حياته فيها ؛ لتهميش القاهرة لانتمائها وتنكرها للقيم المصرية والتقاليد الشرقية المحافظة .
** وفي الختام :
لا أرى أهمية لإيجاز رؤية الدراسة للأعمال التي تناولتها ففي عرض الدراسة غناء عن ذلك ؛ وإنما باختصار شديد أتحدث عن الأساليب السردية التي استخدمها الكُتَّاب في أعمالهم ، تلك الأساليب التي جاءت منوعة ومتعددة ؛ فمنها أسلوب السيرة الذاتية كما في أعمال محمود الطهطاوي ، وجمالات عبد اللطيف ؛ وأسلوب الراوي المفرد كما في أعمال خالد أبو النور ، وهند عبد الرحمن ؛ أما أساليب الاسترجاع والمونولوج والحوار والرسائل والسرد المزدوج فهي من الأساليب التي حفلت بها كتابات السيدة جمالات عبد اللطيف ، بوعي تام ، وكادت تنفرد بها في كتاباتها لولا مزاحمة من الخارج عليها في كتابات محمود الطهطاوي ، وهند عبد الرحمن ، وخالد أبو النور ؛ ودائماً هناك ما يلفت الانتباه عند هؤلاء الكتاب في الكيفية التي يستخدمون بها تلك الأساليب السردية على نحو يخدم المكان والحدث معا ، فكان لكل أسلوب من هذه الأساليب جماليته التي ساهمت في إضفاء بعد جديد للمكان ؛ ولعل أهم ما يميز أساليب استخدام المكان في الأعمال الأدبية لدى كتاب الصعيد بعامة ، وفي نماذج هذه الدراسة بخاصة ؛ أن الأديب يعيد نتاج المكان في مخيلته لا مما يبصره في العالم الخارجي المحيط به مجرداً بأبعاده الواقعية الحقيقية ؛ وبذلك استطاع الكتاب تخطي الأحداث الناتجة عن الناتج والمنتج ، أو السبب والمسبب ، الذي من شأنه أن يقدم لنا أعمالاً جوفاء ، تصور الواقع بلا صدى ، فتجعل النص كالواقف في الظل بلا ظلال .ثم أما بعدُ : ففي الختام نوقن أنه من الصعب أن نختتم بحثاً ، وإنما نعمل فقط على التخلي عنه آنياً قبل أن يتخلى عنا الوقت ، وبذلك يبقى البحث مفتوحاً ، وتبقى فيه ثقوب وفراغات ، يملأُها القارئ الحصيف ؛ وغاية ما في الأمر أننا نُغادر البحثَ وفي أنفسنا أشياءَ منه ، غلبنا عليها الوقت أو التقصير وحُبسةُ الالتزام بكُتَّاب بأعيانهم وترك ما عداهم حسبما ألزمنا المنهج المقترح ؛ وحسبنا أن عَلَّلْنَا النفسَ بأمل المُعاَوَدَةِ درساً وبحثاً وتنقيحاً وحدساً ؛ لتغطية ما تركنا من نقاط وما أجملنا من إشارات ؛ وما عملي هذا إلا عملُ مَنْ مِنْ سِمَاته العجز عن الكمال والتقصير في الأعمال ؛ ولا نقول إلا كما قال الراغب الأصفهاني : إني رأيت أنه لا يكتبُ إنسانٌ كتاباً في يومه إلا قال في غَدِهِ : لو غُيِّـر هذا لكان أحسن ، ولو زِيدَ كذا لكان يُستحسن ، ولو قُدِّم هذا لكان أفضل ، ولو تُرِك هذا لكان أجمل ، وهذا من أعظم العِبَـر ، وهو دليل على استيلاء النقص على جملة البشر .و من وراء مقصدنا الله ، وهو ولي التوفيقعـلاء الدين رمضـان
** مكتبة البحث وهوامشه **
** أولاً : أسانيد النماذج النصية
1 – جمالات عبد اللطيف :· الركض فوق هضاب الشمس، مجلة الطهطاوي،العدد السابع، صيف2000م،ص:36.· يا ... عزيز عيني – قصة قصيرة- كتاب ( الفائزون ) أعمال المسابقة الأدبية الرابعة لنادي طهطا الأدبي للعام2000م، سلسلة كتاب الطهطاوي الأدبي ( الإصدار السابع )، ص :10.· يا عزيز عيني – قصة طويلة– ط 1 ، كتاب الطهطاوي(الإصدار8)، نادي طهطا الأدبي 2001 ؛ ط 2 مكتبة الأسرة ، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة 2002، ( النسخة الإلكترونية من الرواية بموقع غابة الدندنة قسم الرواية http://come.to/alauddin )
.2 – خالد أبو النور :· أنات من الوجع والقص ، مجموعة قصصية ،القافلة للطباعة والنشر ، سوهاج 2000م.
3 – محمود الطهطاوي :· دكة المقدس يوسف ، في مجموعة :”دكة المقدس يوسف“ ، كتاب الطهطاوي (الإصدار 4) ، ط1 - نادي طهطا الأدبي ، مايو 1999م .· الوسادة،النشرة اليومية للمؤتمر الأدبي الأول لإقليم وسط وجنوب الصعيد، سوهاج ، العدد الثالث في 18 / 5 / 2000م ، ص: 2 .
4 – هند محمد عبد الرحمن :· صائدة القلوب، ضمن مجموعة قصص للكاتبة نشرت في كتاب(الفائزون)، ص:13.· محاورة ، مجلة الطهطاوي ، العدد السابع ، صيف 2000م ، ص : 40 .
** ثانياً : هوامش وإحالات مرجعية
1 – غاستون باشلار : جمالية المكان ، ( ترجمة : غالب هلسا ) ، ط1- كتاب الأقلام ، رقم : 1 ، العراق ، وزارة الإعلام ، دار الرشيد 1980م ؛ وأشير هنا أن للمكان والزمان أهمية كبيرة في الثقافة العربية ، قد سبق أن ألف الكتاب العرب الأولون منذ القرن الخامس الهجري كتباً مستقلة تتناول مثل هذه الموضوعات بأبعادها الفلسفية والجمالية ؛ ومنها كتاب الأزمنة والامكنة ، الذي ألفه أبو علي المرزوقي الأصفهاني سنة 453هـ ، [ مطبعة دائرة المعارف ، حيدر آباد ، الهند ، عام 1332هـ ] .
2 – رأى الدكتور عبد الملك مرتاض أن للمكان ( أو الحيز ) مظهرين رئيسين هما المظهر الجغرافي والمظهر الخلفي [ انظر ؛ د. عبد الملك مرتاض : في نظرية الرواية .. بحث في تقنيات السرد ، (ص: 143 – 146 ) ، سلسلة عالم المعرفة /240 ، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب ، الكويت 1998م ] ؛ بينما اتسعت رؤية شاكر النابلسي للحيز وأدواره فرأى أنه يضطلع بعدد من الأدوار المنوعة في الأعمال الأدبية يختلف كل دور منها باختلاف التجربة والصياغة وزاوية المعالجة ؛ فمن صور المكان عنده : المكان الافتتاحي : وهو المكان الذي يقوم فيه القاص بتقديم المكان الرئيس الذي تتفرع عنه الأماكن الأخرى التي تليه مباشرة ؛ المكان الصوتي : وهو الذي تبرز فيه جمالياته من خلال الصوت فقط ؛ والمكان الحنيني : وهو المكان الذي يذكرنا بالماضي أكثر مما يذكرنا بملامح المكان نفسه . والمكان الثالث : وهو المكان الذي يأتي مزيجاً من المكان الحاضر والمكان المتخيل . المكان المقارن : هو المكان الذي يقيم فيه الكاتب موازنة بين مكانين في لوحة قصصية واحدة . المكان الرمزي : وهو المكان الذي يرمز من خلاله الروائي لمكان آخر . المكان الاستدعائي : هو صورة المكان التي يستدعيها الإنسان حين يكون في الغربة . المكان النفسي : الذي يكتسب خصائصه من التصاقه بالبطل ونتيجة لحالته النفسية ويتوقف على مدى توحد البطل مع المكان . المكان القاصر : هو المكان الذي لا يقوم بنفسه وإنما بمساعدة جماليات مكان آخر أقوى منه . المكان العالة : هو المكان الذي لا يقوم بأي دور في النص بنفسه؛ المكان الرحمي : وهو الذي يشبه رحم الأم ، ويتحقق هذا النمط عندما يتوحد البطل مع المكان ويستغني به عن العالم من حوله. المكان الحلولي : هو المكان الذي تحل فيه الأرواح وهو المكان المسكون بروح الجن . المكان الفوتوغرافي : هو الذي يصور تصويراً فوتوغرافياً خالصاً . المكان التكميلي : هو المكان الذي يأتي في الرواية عادة بوصفه جزءاً من معمارية مكان آخر …، إلخ الأنماط التي رصدها الكاتب الذي ربما وجد متعة في التسجيل وابتكار الأنماط ، التي مع الأسف لن تخدم العملية الفنية للأداء الأدبي في شيء فهي في النهاية تظل أنماطاً خارج السياق الإبداعي ؛ إذ إن النمط في الإبداع أشبه بالنظريات التربوية ، فنحن بحاجة إلى نظرية نقدية لكل عمل إبداعي على حده كي يمكننا أن نتعامل معه [ انظر بقية الأنماط التي لم أسجلها في : جماليات المكان في الرواية العربية ، تأليف : شاكر النابلسي ، المؤسسة العربية للدراسات والنشر ، بيروت 1994م ] ؛ وإن كنت أود هنا أن أضيف إلى نمط ابتعد عنه الباحثون في دراساتهم بل لم تعالجه دراسة فيما وصل إلى يدي من بحوث ودراسات ، هذا النمط هو الإطار المكان المجرد الذي يمتلك سمات محددة غير مسماة ، وقد عالجت هذا النمط في دراستي لرواية صح النوم للأديب يحيى حقي ضمن دراستي للبيئات الضمنية والإطار البيئي عند حقي [ انظر للباحث : أثر البيئة والمتغيرات الاجتماعية في أدب يحيى حقي ، ص : 148- 153 ، و ص: 301 – 316 ] .
3 - انظر ؛ غاستون باشلار: جماليات المكان ، ترجمة غالب هلسا ، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع ، ط 2 - بيروت 1984م ، ص: 184 .
4 - انظر نص القصة في قسم " الرواية " بموقع ( غابة الدندنة ) ، على شبكة الإنترنت في العنوان الآتي : [ http://www.come.to/alauddin ] .
5 – يجب الانتباه إلى أن القصتين (يا عزيز عيني ) وإن اتفقتا في التسمية ؛ إلا أنهما متغايرتان ، فكل نص يختلف عن الآخر في البنية والهدف والتجربة والأحداث ، بل وزمن الكتابة ، فقط كانت القصة الطويلة مفقودة حتى وقت قريب ؛ انظر نص القصة القصيرة في كتاب : الفائزون ، نادي الأدب بقصر ثقافة طهطا ، كتاب الطهطاوي رقم 7 ، طهطا 2000م .
6 – جماليات المكان ، ص : 54 .
7 – الخزانة هي اللا وعي أو اللا شعور المختزن في الباطن ، التي يجب أن تضم منكتماً خاصاً إذا انكشف وشاع صار معلوماً فانتفى دور الخزانة ، وانتهكت خصوصيته ؛ [انظر؛ للباحث: أثر البيئة والمتغيرات الاجتماعية في أدب يحيى حقي ، ص:210] فمفهوم الخزانة يعني النفس الإنسانية المنغلقة ؛ ونشير هنا إلى أن (الأنا) كما حددها علم النفس ، مفهوم ينقسم إلى قسمين رئيسين : الأنا الحقيقي ، والأعنا الأعلى أو الضمير [ انظر هاري ويلز : بافلوف وفرويد (2/106) ، و : الإنسان بين الجوهر والمظهر (ص: 9) ] ؛ ويقف الأنا الحقيقي محصوراً بين ثلاث قوى ، هي : الهو ، والأنا الأعلى ، والعالم الخارجي [انظر ؛ بافلوف وفرويد (2/107) ] وهو ما حاول الكاتب تجسيده في قصته ( بنت من طين ) .
8 – ترمز الكاتبة هنا إلى لا جدوى الانحباس في الحلم ، وأحمية الفاعلية والبعد الاجتماعي للكاتب حتى يكون أكثر عطاءً وتأثيراً واستمرارية .
9 – إريك فروم : الإنسان بين الجوهر والمظهر ، ص : 163 .
10 – غاستون باشلار : جماليات المكان ، ص : 45 .
11 – ربما أراد الكاتب من وراء حصره لأطفال القرية ذلك العام في العدد أربعين إسقاطاً على عدد اللصوص في حكايات على بابا الشعبية .