2012/01/17

أزمة الذات والافتقار إلى الهوية


أزمة الذات والافتقار إلى الهوية
رؤية نفسية في رواية العطر لباتريك سوسكيند

** علاء الدين رمضان **
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ



النشر الورقي : مجلة سيسرا ، العدد الثامن ، ( نادي الجوف الأدبي )، محرم 1433هـ - ديسمبر 2011م

رواية العطر ( Das Parfum )، تأليف الكاتب الألماني باتريك سوسكيند ( Süskind, Patrick )، تُصوّرُ القصّةَ الخياليةَ لقاتل، مِن ولادته في حيّ فقير فاسد في القرن الثامن عشر بباريس، إلى مجده النهائي وموته المريع. على الرغم من أنّه لا يمتلك رائحة خاصة، جان بابتيسته غرينوي ولد مع إحساس مميز بالرائحة . بعد طفولة بائسة وحزينة جداً، وفي النهاية هو نفسه يعمل صانع عطور ويتعلّم هذا الفَنّ القديم بالعاطفة والحماسة .

رواية العطر للمؤلف الألماني باتريك سوسكيند تصدرت بعد صدورها في ألمانيا لائحة الكتب الأكثر رواجاً لمدة تسع سنوات متواصلة . كما تمت ترجمتها إلي 42 لغة وبيع منها أكثر من 15 مليون نسخة في أنحاء العالم..، وطلبها من مؤلفها المنتجون السينمائيون لكنه اعتذر ليقينه بفشل وتعذر تجسيد موضوعها الذي يعتمد على حاسة الشم، من خلال التجسيد السينمائي، هذا الخوف من أن يؤثر فشلها في السينما على رواجها المطبوع جعله يرفض طوال عشر سنوات.. ، لكنه وافق مؤخراً عندما أقنعه المنتج الذي ظل يلاحقه طوال هذه السنوات بأنه نجح في تجسيد الرائحة من خلال الكتاب لأنه أعلم بمهنته، في ذلك الصدد هو يرجو أن يترك له المجال لمحاولة تجسيد تلك الرائحة على شاشة السينما فربما ينجح المنتج في مهنته كما نجح الكاتب في مهنته؛ وربما كان هذا القول مقنعاً حقاً ؛ لكن مبلغ العشرة ملايين يورو التي حصل عليها مقابل حقوقه مؤلفاً.. ربما لعبت دورا أكبر في إقناعه .

باتريك سوسكيند روائي ألماني مهم، ولد في السادس والعشرين  من مارس عام 1949 في بلدة أمباخ ..، على بحيرة شتارنبرغ ..الواقعة على سفوح جبال الألب..، درس التاريخ في جامعة ميونيخ ما بين عامي 1968 – 1974، ثم عمل بعدها في أماكن مختلفة وكتب عدة قصص قصيرة..، وسيناريوهات سينمائية..، ولم يعرف بوصفه كاتباً إلا عام 1981 ، عندما نشر مسرحيته " عازف الكونترباس"، وهي مونودراما من فصل واحد..، قدمتها معظم المسارح الألمانية والأوروبية..، ثم ازدادت شهرته بوساطة روايته الأولى " العطر " 1985 التي ترجمت حتى الآن .. إلى أكثر من عشرين لغة..، وبها وصل الكاتب إلى شهرته العالمية؛ حتى حصل عام 1987 على جائزة " غوتنبرغ " لمنتدى الكتاب الفرانكوفوني السابع في باريس..، وهو يعيش الآن بين باريس وميونيخ، متفرغاً للكتابة ..

·       الـروايــة :
في واحد وخمسين مقطعاً طويلاً تتجمع تحت أربعة أجزاء كبرى تتحدث الرواية عن شخصية جان باتيسته غرينوي المولود عام 1738 في المكان ذي الرائحة الأبشع علي وجه الأرض في مزبلة سوق السمك وتحت طاولة تنظيف السمك، من أم بائسة تعمل في شارع قذر حيث فضلات الأسماك التي تعمل علي تنظيفها تجسد القذارة، وكان في نيتها أن تتركه هناك مع تلك الفضلات كي يموت ويلقي في النهر مع نفايات السوق، وهذا ما فعلته مع أربع ولادات سابقة، لكن افتضاح أمرها، والقدر الذي سيرافق هذا الطفل قد ساقاها إلي الإعدام، أما الطفل الأعجوبة فقد تنقل بين المرضعات اللواتي كن يلفظنه دون أسف عليه لما يبثه فيهن من الرعب والقشعريرة، ولم تقبل به سوي مرضعة، لا تشم ولا تشعر.. كأنها ميتة من الداخل.. كان هذا الطفل يمتلك حاسة شم فريدة، ساعده علي تطويرها العطار بالديني ، الذي علم غرينوي كيف يستخلص المرء العطور ويحفظها، واستفاد منه في التخلص من منافسيه، لكن هدف غرينوي كان أبعد من كل تصور.. لقد قتل العديد من النساء الشابات ليستخلص منهن خلاصة العطر النقي.. عطر الحب.. العطر الذي يستطيع السيطرة به علي الآخرين بعد أن بدأ سلسلة جرائمه ببائعة البرقوق التي كانت فاتحة عهده في البحث عن عطر العطور، حتي إذا ما أدين في النهاية بقتل النساء، واستحكمت حوله قبضة العدالة، تحول المتفرجون الحاضرون لمشاهدة عملية إعدامه.. إلي عشاق لا احد يستطيع وصف مشاعرهم غير العبقري سوسكيند. وهم ينظرون بعطف لذلك القاتل الغامض الدموي والعبقري في فظاعته، والبشع ولكن ليس إلي درجة الاشمئزاز؟ وكان انهيار المشاهدين مشهدا غريبا وفريدا.. بفعل العطر الذي يشارك غرينوي بطولة الرواية، فهما المحركان الرئيسان لأحداثها، وما يتبع هذه الأحداث من تداعيات مختلفة ومحيرة وقاسية ومقززة.. غرينوي بأفعاله الشيطانية القاسية، والعطر بتأثيره الطاغي والمعربد والعابث بالمشاعر.
تلك الأفعال الشيطانية، لا يمكن لمحلل أن يصفها إلا بالقاسية، لا الفاسقة، لأنه كان بعيداً عن الفسق في تعامله مع البنات اللائي يختطفهن ليستخلص منهن الرائحة الإنسانية، فهذا القاتل ، صانع العطر، أراد أن يخلق نوعاً من العطور التي لم يعرفها العالم بعد ، عطراً يملك مسحة بشرية، وهو مستعد لعمل أي شيء لكي ينفذ خططه . فيَقُوده هوسه للقَتْل : عندما رأى أن رائحة بَعْض البنات الشابات العذراوات يمْكِن أَن تساعده على إنْتاج تلك الرائحة " السماوية ". بينما أحداث القصّة تتصاعد، يَشْهد القارئ بَعْض جرائمِ القتل المُخيفة التي يرتكبها غرينوي. والقارئَ مغمور بمياه الشر ذي الدوافع الإنسانية، في بيئة مظلمة، حيث الجنس والموت، الجريمة والولع يتحالفان، وحيث الذنب يقود إلى نصر شخصي. التحليل النفسي للرواية هو القادر على دفع المتلقي لاكتشاف بعض الجوانب الغامضة في شخصية غرينوي، ويساعدنا على فهم الحالات العقلية المختلفة التي تقوده للقتل أيضاً.

·       البناء النفسي للرواية :
جان باتيسته غرينوي ولد في 17 من يوليو سنة 1738م بباريس، " في أكثر البقع فساداً في المملكة الفرنسية بأسرها"، تظهر هذه البقعة كريهة الرائحة والكئيبة والمظلمة بوصفها إنْذاراً بالمستقبل الكئيب الحزين للطفل الرضيع البريء. فعيد ميلاد غرينوي مرتبط برائحة نتنة قوية نفاذة، هي خليط من الموت والتفسخ : " الرصاص المنصهر ينصب فوق المقبرة، معتصراً بخار العفن، مزيج من البطيخ المتعفّن، والرائحة النتنة لقرن حيواني محترق، ينفث خلال الممرات القريبة". منذ البدء، يَبْدو أنّ غرينوي والروائح يتواصلان بعمق. يصر المُؤلف على أهمية هذه البيئة كريهة الرائحة التي تحيط بغرينوي الطفل الرضيع. هذا الوصف المبكّر محتشد بالدلالة. النكهات، الروائح، "العطور" كلها عناصر مركزية للقصة، وتلعب دوراً رئيسياً في جرائم القتل التي تتلاحق؛ أيضاً، أمّه لم تكن مرحبة بولادة غرينوي. هي نفسها قاتلة وتخلصت من أطفالها الرضع الأربعة الأولين. وغرينوي الخامس الذي تمنت بل شرعت فعلاً في قتله. فمنذ البداية، لم يكن فقط غرينوي وليد حي فقير متعفن ذاك الذي يصوره بوصفه حيواناً أكثر من كونه طفلاً إنسانياً رضيعاً، لكن أيضاً هو لَم يكن يقصد أن "يكون" كذلك مطلقاً. أمّه قبل فترة طويلة قد خطّطت لقتل "وليدها". على أية حال، تعتَقل أمه بسرعة ثم تُشنق، و غرينوي ينجو. من وجهة نظر التحليل النفسي، القارئ يمكن أن يتوقع أنّ غرينوي قد يصبح هو نفسه قاتلاً، لكون معظم الأطفال يعيدون إنتاج جرائم آبائهم أو أضعافها، كما يقول فرويد. بالإضافة إلى ذلك، طبقاً لنظرية فرويد للتحليل النفسي، نحن يمكن أن نصل للشرير، متدبرين مشكلة غرينوي القاتل، مع حقيقة كونه صاحب طفولة صعبة وحزينة جداً.

·       الأزمة الداخلية :
بشكل مؤسف، حظَّه السيئَ يظل يلاحقه، لأنه " في ذلك الحين غير المرضعات ثلاث مرات "، مهما يكن فالمشكلة حقاً في هذه النقطة، إنه لا يحظى بأيّة مودة، أية عاطفة مطلقاً . يَبْدو أنّ هذا الأمر نوع آخر مِنْ " سوء الحظ "، وهذا يعد أكثر شبهاً باللعنة؛ وقَد يَكُون إلى حد ما الخطأ في غرينوي نفسه : " لم يرد أحد إعالته لأكثر مِنْ أيام قليلة ." غرينوي يرضع بقدر رضيعين"، وهو ما يُنذرُ بطمعه وأنانيتَه عندما يصير فتياً، فيما بعد في القصّة . ثمّ، تدفع به مرضعته الأخيرة إلى الأب تيرير. لسوء الحظ، كان خائفاً منه، أيضاً عندما أخبرته بأنه ممسوس من قبل شيطان : " إنه لا يشم مطلقاً. إن به مساً من الشيطان"؛ فأعطي الطفل الرضيعَ بعدئذ للسيدة جايللارد، التي لا تعبأ كثيراً بما يتعلق بحالة غرينوي الغريبة. كان الأولاد الآخرون يحاولون خنق الطفل الرضيع عدّة مرات، لأنهم خائفون منه. فيفشلون في كل مرة : ربما يكون لغرينوي نوع من القوى الطبيعية الخارقة. الحقيقة إنه كائن استثنائي أَو إنه قَد لا يكون بشرياً مطلقاً، يقدمه بوصفه كياناً منفصلاً ويَزيد من عزلتَه وخلوتَه . بتعبير آخر، غرينوي لَيْست لديه رائحة خاصة وهو ما يجعله " وحشاً ". على الرغم من أنه لا يضاهى في إحساسه بالرائحة، إنه خارق تقريباً، لا أحد يَهتم بغرينوي أبداً. فتظل مرفوضة طفولته تماماً . هو لا يعرف ماذا يعني الحب منذ استهل الحياة .  لذا، هو قد يفهم " الحقد" على نحو أفضل، وتحبس نفسه في الظلام الأفكار الشريرة . إذا طبقنا نظريةَ فرويد للرغبات المكبوتة على قصّة غرينوي، يتضح أنّه رُبَّمَا قَمعَ مشاعرَه وأكثر رغباته الشخصية أثناء طفولته فجرائم قتله العديدة والشنيعة قد تكون " استجابة لصدمة "، نَتيِجة أزمة " داخلية " أثناءها يخرج مشاعره الخفية :  غضبته، إحساسه العميق بالعزلة، حقده على الناس والبشر بعامة . إنه يواجه بجلاء معركة بين " أناه " ( النفس الواعية ) و" هويته " ( النفس غير الواعية )، التي تؤدي إلى خروجه من " هويتِه "، بمعنى، التعبير عن أفكاره السرية . تلك المشاعر القوية، التي بقيت طيّ الكتمان لمدّة طويلة، " تَنفجر " إجمالاً في نتائجها المرعبة .

·       الافتتان بالنفس :
عندما يُقابلُ صانع العطور بالديني للمرة الأولى، في باريس، يعرف غرينوي أن بالديني ليس صانع العطور العظيم على الإطلاق. فالولد الصغير يعتقد أن هذه العبقرية الخاصة يمكن أن تساعد بالديني ليصبح مزدهراً وناجحاً مرة أخرى . حتى قبل أن يقبله بالديني بوصفه متدربه الجديد، غرينوي، الذي كان واثقاً من نفسه جداً، يعرف أنه سيحصل على الوظيفة، وأن هذه مجرد بداية لنجاحه الباهر الخاص : "لقد فاز بفكرة أنه منتمٍ إلى المكان وليس لأي مكان آخر عداه، أنه سوف يبقى هنا، أنه من هنا، هو سوف يهز العالم من أُسُسِه." لذا، في عمر صغير جداً، غرينوي، قد أدرك إحساسه الاستثنائي الخاص بالرائحةِ، مطوراً شخصيته النرجسية. هو يعرف أنه عندما يبرع في كل التقنيات، سوف لن يبقى في ظل بالديني، وسيصبح ناجحاً بنفسه. إضافة إلى أنه بعد أن يقتل العذراء الأولى، غرينوي لم يندم مطلقاً. بالعكس، "لم يسبق في حياته أن عرف ماذا تكون السعادة." إنه منتشٍ، في حالة من نعمة الصفاء والبهجة. غرينوي الشرير يعيش بلا ريب في عالمه الخاص للأعمال الشريرة وشهواته المرعبة. مقتل البنت الشابة البريئة من روي ديس مارايس يجعله يدرك أنه يريد خلق "رائحة رئيسة" العطر الفاتن الذي سيمكنه من استعباد الناس. شخصية غرينوي المتغطرسة أوحت بأنه: "أحس كما لو أنه أخيراً عرف من كان هو : لا شيء أقل من عبقري." يعتقد أنه بدون شك يستطيع أن يكون صانع العطور الأمهر من أي شخص آخر : " هو وحده في كل العالم حاز الوسائل للفوز به على حدة : يعني، أنفه الخارق، ذاكرته الاستثنائية." سوسكيند يصوغ سلوك غرينوي النرجسي : "هو وحده في كل العالم"؛ "هو يجب أن يصبح مبدع الروائح "؛ "وليس مجرد شخص عادي. لكن، بالأحرى، صانع العطور الأعظم." في مقالته حول الافتتان بالنفس( النرجسية )، يلاحظ فرويد أن فرداً مع اضطراب شخصية نرجسية لها إحساس مبالغ فيه بتفرده الخاص واستثنائه، تلك هي حالة غرينوي. غرينوي يعتقد أنه يمكن أن يصبح صانع العطور الأعظم الذي لم يسبق له مثيل. لقد فقد الإحساس بالحقيقة؛ تطلّعاته إلى حد بعيد كبيرة بالنسبة لرجل صغير فقير مثله. أيضاً، هذه الثقة المتطرفة يمكن أن تكون نتيجة طفولته، عندما لم يؤمن به أحد أبداً وعندما كان يعيش في عزلة عميقة. غرينوي ربما بنى حاجزاً بين نفسه والآخرين، لكي يحمي نفسه. هذه هي الحقيقة أنه يملك إحساساً فريداً بالرائحة وذاكرة استثنائية لكل الروائح، لكن تطلّعات غرينوي تثبت أن عنده شخصية نرجسية. أيضاً، الفرد النرجسي يهتم بأن يصبح شخصية غير اجتماعية، ليبرهن على الافتقار إلى العاطفة، ولاستغلال الآخرين لكي يكون ناجحاً. هذه هي حالة غرينوي الأناني الذي يستعمل العذارى الشاباتَ ( يقتل بعض العشرات منهن في بلدةِ جراسي ) لكي يخلقن أفضل عطر الذي سيُصنع من كل أريج البنت. غرينوي يختار العيش في جبال ليز سيفينيز، لأن لا أحد يمكن أن يزعجه هناك. إحساسه الخاص بالتفرد يصبح مفرطاً، مما يثبت أنه يعاني من اضطراب الشخصية غير الاجتماعية: "هو كان حقاً متوحداً تماماً! كان الإنسان الوحيد الموجود في العالم! "إضافةً إلى، أن غرينوي يحاول بناء صورة مثالية لنفسه. هو يريد أن يكون "غرينوي العظيم " : نوع من أن عباد الله يجب أن يعظمونه : "هم يحبونه كما أقاموا تحت سحر رائحته، ليس فقط يقبلونه بوصفه واحداً منهم، لكن يحبونه إلى حد الجنون، من نكران الذات، هم بالبهجة سوف يرتجفون ، يصيحون، يبكون من أجل الرحمة، إنهم سوف يغرقون إلى ركبهم، كما لو أنهم تحت بخور غيبي بارد." هذه الشخصيةِ النرجسية تؤكد أن غرينوي "الأنا العليا". في نموذجِ فرويد ذو الأجزاء الثلاثة للطبع، الهوية والأنا يجب أن يتفاعلا مع "الأنا العليا". غرينوي يطور أنا عليا، ربما بسبب عملية الكبت المؤلمة، لكي يملك أعظم صورة مثالية لنفسه.

·       قاتل على حافة العالم الحيواني
دوافع غرينوي بالنسبة لجرائم القتل نفسها واضحة. إنه يقتل لأن القتل طريقة للحصول على الرائحة، بينما يقصد إلى غايته، وهو قادر على القتل لأنه غير أخلاقي . وهذا أيضاً يبدو واضحاً ومنعكساً في عجزه عن إدراك مفاهيم مجردة متعلقة بمبادئ خلقية مثل " الحق Recht، الضمير Gewissen، الله Gott، البهجة Freude، المسؤولية Verantwortungإنه يظهر عدم تقدير لنتائج أعماله على الآخرين وجرائم القتل ليست لمتعة إيقاع الألم بالآخرين، لكنها على الأدق لبلوغ غايته واستخلاص عطر البنات، وحشيته تبيح له اعتبار القتل طريقة مشروعةً لتحقيق رغباته . على الرغم من المبررات وراء وحشيته فهي غير واضحة، كما أن الدافع وراء رغبته في الاستيلاء على عطر البنات.
تفسير واحد يتعلق بنظريته الغامضة " على حدود الإنسان والعوالم الطبيعية "، حالته بوصفه كياناً بشرياً باستمرار وجوده يثير فيه الريبة . حالته عديمة الرائحة تبدو لتجريده من ادعائه الصفات الإنسانية، مع واصلة مبكرة بين المؤسستين في الرواية، عندما اعتبرته المرضعة معتوهاً لأنه "لا يشم الروائح كما يجب؛ er riecht nicht wie riechen sollen" ، وعندما يشم غرينوي راهبا أبوياً، " نقص مجموع رضعاته الإنسانية على ما يبدو قد مكنته من النفاذ إلى عمقِ روح الراهب". يمكن أن يدل هذا على وجود عنصر خارق، فكرة محتملة، على سبيل المثال، بوساطة عاهة قدمه والوصلة الحتمية مع الشيطان التي تنشأ فيه .
إن فكرة غرينوي بوصفه حيواناً أكثر منه إنساناً تكون أيضاً ذات وجاهة والتلميحات الوحشية المستعملة في الارتباط مع خطابه وحركته المتكررة . فهو " يهسهس zischelte "، على سبيل المثال، و" يقعقع schnarrte ". هناك تلميحات عديدة إلى غرينوي بوصفه " على الذروةein Zeck  "؛ والقياس يمكن أن يكون ظاهراً باستمرار عندما يكون سلوكه تجاه الآخرين مدروساً . إنه يرضع جفافهم، " معززاً وجوده بطريقة ما "، كما هي الحالة مع جين بوسي والسيدة جويللارد وجريمال، أو يعزز أهدافه ذات العلاقة بالعطور، كما هو الحال مع بالديني، ودروت والمركيز "؛ لكننا نجد أنه بينما غرينوي يتعلم، ويتطور وينشط، كل هؤلاء الأفراد يلتقون مع موت غير طبيعي…. إننا ندرك أن غرينوي القرادة التي تخرج دائماً متخمة بالدم، مخلفاً وراءه ضيفاً ميتاً كان قد امتصه حد الجفاف".
إن اعتماده الفعلي على إحساسه بالرائحة ينسبه فوراً إلى الحيوانات، مثله هي الأدنى لكنها الأقدر شماً بين البشر، والشيء الذي عليه تعتمد الحيوانات في أغلب الأحيان، في حين كان غرينوي منفياً مقيماً في الكهف ، نجد المؤلف يصفه بصفات هي خلاصة الوجود الحيواني، لعق الماء من المستنقع وأكل الحشرات والسحالي للبقاء.
لو أن غرينوي كان في الحقيقة حيوان أكثر منه إنسان، عندئذ سنجد في تصرفاته ما يمكن أن ينظر إليه ليرى في هذا الضوء كأنه كذلك فعلاً . فالحيوانات تقتل من أجل البقاء، وهناك أثر دقيق غير ملحوظ، إن بقاء غرينوي مرتبط بالشم . مرضه عندما يعتقد أنه لا يستطيع الحصول على رائحة الكيانات البشرية يبرهن على احتياجه الطبيعي للروائح . حاجته إلى تملك رائحة البنت الأولى في باريس وبعد ذلك لورا ريتشي يرتبط بشكل معقد بغاية حياته تماماً .
على الرغم من ذلك فكرة غرينوي بوصفه حيواناً هي تباعاً تكون معلنة للتشكيك فيه بوساطة قلة خوفه من الموت، ذلك السلوك الثابت بانتحاره المبهم وقلة رغبته في التناسل، كلاهما جوهري بالنسبة إلى الحيوانات . حقاً على الرغم من أن المشاهد تصف منفاه في الكهف بأنه جنسي غالباً، أجساد البنات تظل " لم تمس unberührtلأن تعلقه الوحيد برائحتهم . إن الغموض على هذا النحو مكتمل والقارئ لم يمنح أجوبة حاسمة بخصوص حياة غرينوي مطلقاً .
ربما هذا يعكس أزمة غرينوي الخاصة في افتقاره إلى الهوية، وقد ثبت ذلك في افتقاره إلى الرائحة الشخصية، الميزة الوحيدة أنها قدراته ووسيلته هو نفسه التي يستعملها لتمييز الآخرين . إننا أيضاً نرى علامات أخرى لفقدان الهوية في مكانة سطحية في حافة المجتمع، لا يؤبه به عندما يغادر باريس، على سبيل المثال وغير مفتقد أثناء منفاه، افتقاره إلى الأبوة الثابتة والحقيقة، ذلك بأنه لم تطهر روحه بعد الولادة ( أي لم يعمّد ). هذه الأزمة الشخصية معاقة أيضاً بوصفها تفسيراً لرغبته في الحصول على رائحة إنسانية، وارتباكه الذي ربما يبدو منعكساً بوساطة إبداعه الروائح الإنسانية المتعددة، لكن ثانية المدى الذي بلغته هذه السيادة ظل غامضاً حتى النهاية  .

·       عالم الجريمة والغموض :
رواية سوسكيند بلا ريب تتخاصم مع المعايير المؤسسة لقصة الجريمة. وطبقاً لطبيعة نوعها الأدبي، يتوقع القارئ الأجوبة. فالرواية يجب أن تبرر الغموض، وتوضح ما يبدو أنه غير قابل للتوضيح والقارئ ينشد الكشف عن القاتل والطريقة والدافع . على الرغم من ذلك فرواية العطر تربكنا . إننا مباشرة وجهاً لوجه مع القاتل، يسلبنا الغموض هنا. إن طريقة القتل غير استثنائية على النمط نفسه، مكشوفة بشكل عشوائي وبدون تشويق. السر الوحيد الذي يبقى المخاوف دافعاً لأعمالِ غرينوي. تشكيلة الخيارات التي ألمح عنها، تتعلق بشكل أكثر خصوصية بحالاته الغامضة بوصفه كياناً حيوانياً أو إنساناً أو خارقاً، طبيعة العبقرية الفنية، دور معاملته بوساطة المجتمع وغرينوي بوصفه تجسيداً للشر. تحقيق هذه المواضيع المركزية يكشف عن كثير من حالات غموض المبدأ المقدم في الرواية. الألغاز التي تنشأ عن هذه الحالات من الغموض بخصوص الفهم الحديث للمبادئ الخلقية يجب أيضاً أن يُبحث كما يجب أن تقدم الأحاجي في النص لكي يضع الرواية ضمن سياقها ما بعد الحداثي .
فرواية العطر تعد رواية كشفية وقد تبدو ساخرة . لأن ميلنا الفطري للتفسيرات سنكتشفه في التراصف المثير لعالم بالديني بمعتقده الديني النفاقي ورفض التبرير ودخول الأب تيرير في انسجام عقدي واهتمامه بالعلم، على الرغم من أن حبه للراحة، مادياً وروحياً يعوق المزيد من التحليل داخل العمق أو اعتبار معمقاً! لكن دور الدين والعلم يبقى غير واضح . في نوع أين التفسيرات إنها ضرورية، لا حلول إنها معروضة بخصوص دوافع غرينوي لخلق عطره، ولا وحشيته المبررة .
وهناك عدد من حالات الغموض الأخرى يرتبط بدور الفن والفنان في هذه الرواية. العبقرية الفنية مقدمة بوصفها تأثيراً بناء وتدميرياً . فبالديني أب العبقرية وبعد ذلك استغلال فن غرينوي يسمح لمحتال الشهرة والثروة يتطلع ويستغل موهبة غرينوي الفنية وتجارة السيدة آرنولفي للنجاح، تشير إلى إمكانية الفن البناءة. برغم ذلك يشهد رحيله سقوطهم، ولو أنه ليس كنتيجة مباشرة. على نحو مماثل هناك شيء شاعري حول دور الفن الآني بناءً وهداماً . يقتل غرينوي البنات الشابات الجميلات لكي يحفظ جوهرهن، يواجه مفهوماً عصرياً للفن ربما سيكون له قدرات معالجة إيجابية . هذه الآراء المعارضة لدور الفن تبقى غير متصالحة على أية حال، يستخدمها المؤلف لإثارة الغموض وحسب .
كما فعل في إشارته إلى تأثير التكيف الاجتماعي في التطور الشخصي لغرينوي، إن الخصائص الإنسانية المطورة بوساطة غرينوي هي سلبية بشكل خاص ومحاكاة لأولئك الأشخاص الآخرين . فحاجته الجشعة للاحتفاظ بالروائح المتماثلة، على سبيل المثال، وطمع بالديني وحشده للروائح . هل هي صدفة أن أمنيته ليكون معشوقاً أَيّ يكون ظاهراً بوساطة تخيلاته هو نفسه بوصفه قيمة إلهية تردد رغبة الماركيز ليعد عالماً مبتكراً مع اكتشافه مادة مهلكة ؟ لا مبالاته يمكن أن تكون نتيجة الانفصال العاطفي لـ " قوى الأرواح seelenarmen ". إن الاتصال بين التنشئة والشخصية الناتجة والتنمية الاجتماعية ملموس بوساطة مثال السيدة جايللارد، التي، ورثت هزيمة أبيها فاقدة إحساسها بالرائحة و" ساقطات يتعاطفن مع الدفء الإنساني والفتور الإنساني وكل عاطفة بعامة jades Gefühl für menschliche Wärme und menschlich Kälte und überhaupt jede Leidenschaft ".
على أية حال، يترك المؤلف القارئ لتقرير كيف يعزى التأثير للطفولة ومعاملة غرينوي في المجتمع وهل هو يستطيع أن يصفح عن مثل " عدم الملاءمة البشع الذي تعد أهواله مجرد نذير بالثورات والقلاقل المرعبة لأزمنة أكثر حداثة ". إن القضية مبهمة لدى سوسكيند أو قصد ذلك .
هي ليست صدفة أن بناء وتأليف رواية سوسكيند يقلد العملية التي تصنع بها العطور . إنها رواية مكتظة بالإشارات الأدبية، من جوتة إلى هوفمان، تحتوي على توريات متعددة، ومعان مزدوجة وحالات من غموض .  إنها باختصار منبعثة قبل القارئ، تقريباً بينما يمسك غرينوي نسمات الروائح قبل أن يهجره الشعاع، يكد ليجعل النص غامضاً عن قصد .
في حيلة متعمدة مما بعد الحداثة، أغلب الأسئلة المطروحة تظل بلا جواب والغموض، يجعل الأمر صعباً بالنسبة للقارئ إن أراد الوصول إلى الاستنتاجات المؤكدة وتمثيل الحقائق الخلقية العالمية . لكنه بدلاً من ذلك يتركنا مع سلسلة من الألغاز الخلقية المتعلقة برسالة ومعنى الرواية ككل، مرددين رفض ما بعد الحداثة للعديد من الوقائع والحقائق المطلقة المشروحة بوساطة الحداثة. لا الدافع وراء خلق غرينوي للرائحة ولا الأسباب لوحشيته المنصوص عليها . إن فكرة وجود غرينوي الحيواني أو الخارق، مسؤولية المجتمع وطبيعة عبقريته الفنية مطروحة للمناقشة، لكن أدوارها غير معرفة. ربما القارئ يوضع في دور المكتشف ويترك للإجابة على أسئلته الخاصة لكي يجيب أسئلته الخاصة. ربما الرواية أكثر رفضاً ساخراً لإنتاج التفسيرات والرسائل إننا نتوقع ونريد من مثل هذه القصّة المعقدة، شاياً يحدث القارئ بوساطة إثارة الأسئلة بدون أجوبة. بالتأكيد لا توضيح لهذا معروض من قبل سوسكيند.

·       للاستنارة :
1 - Jacobson, Manfred R. “Patrick Süskind’s Das Parfum: A Postmodern Kunstlerroman” The German Quarterly (1992), p203 & p205
2 - Ryan, Judith, “The Problem of Pastiche : Patrick Süskind’s Das Parfum”, The German Quarterly, (1990), p396-398 & p399
3 - Süskind, Patrick, Das Parfum: die Geschichte eines Mörders, Zurich, Diogenes Verlag, (1985), p16, P25, p27, p29, p33, p92, p96, p251, p156 .
4 - Whitinger, R.G., Herzog, M. “Hoffmann’s Das Fr ulein von Scuderi and Süskind’s Das Parfum: Elements of Homage in a Postmodernist Parody of a Romantic Artist Story”, The German Quarterly, (1994), p233.

2011/10/10

الثورة والثقافة والتغير

الثورة والثقافة والتغير

علاء الدين رمضان

الثقافة مفهوم خلقي غير محدد ؛ يعني يمكن وصفه ولا يمكن تحديده، وهو إجمالاً يراوح حول التعريف العربي القديم: أخذك من كل علم بطرف، والثقافة البشرية شأنها شأن أية سمة جوهرية حضارية تمر بمراحل تطورية متمايزة كل مرحلة تكون نتيجة تجمع حشد من الظواهر أو السمات الثقافية إيذانا بتغيير ثقافي أو بانتقال الثقافة إلى مرحلة اخرى، وأنا هنا يهمني التفريق بين مفهومين متغايرين يحدث بينهما التباس غالبا حتى بين الخاصة من غير المتخصصين، هذان المفهومان هما التغيير والتغير .

فالتغيير عملية تطورية غير محددة الاتجاه تنشأ بوصفها استجابة مقصودة أو غير مقصودة، من قبل الجماعات للضغوط التي تواجههم وما يتركه التقدم والتطور الملموس وغير الملموس عليهم في الأفكار والممارسات . فهو إحداث تحول شكلي ما في بيئة نمط أو بنيته باستبدال نمط ما بنمط قائم؛ وهو غير مؤثر بنفسه بالضرورة، ويمثل التغيير "تحركاً ديناميكياً يحمل بين طياته وعوداً وأحلاما للبعض، وندماً وآلاماً للبعض الآخر، وفق الاستعداد التقني والإنساني". وفي جميع الأحوال نجد أنّ التغيير ظاهرة يصعب تجنبها، وهو لا يخرج عن كونه استحداث أوضاع إدارية وأساليب تنظيمية وأوجه نشاط جديدة تحقق للمجتمع تحولا يمكن بوساطته تحقيق تطور أعمق وأسرع في مؤسساته ونظمه، ويوفر له ميزة نسبية تمكنه من الحصول على مكاسب وعوائد أكبر .

أما التغير فهو عملية تحول نمط من الداخل تحول جوهري والتغير بحاجة إلى مدة زمنية طويلة بينما التغيير يمكن أن يحدث في لحظة عشوائية، كأن ينحرف قائد السيارة إلى طريق جانبي بمجرد رؤيته دون التفكير فيه، كأن يقرر أعضاء ثورة ما التحول من مطالب يسيرة إلى مطلب انقلابي، فقد بدأت الثورة المصرية ضد نظام مبارك بمطلب رئيس هو "حياة, حرية, كرامة إنسانية". لنجدها تحولت بدافعٍ معروفٍ لديَّ إلى "الشعب يريد إسقاط النظام"؛ وهو من وجهة نظري شعار دفاعي لا سياسي؛ أو أن ينقلب جيش على نظام قائم، أو إقالة نظام حكومي واستبدال نظام آخر به . كلها عمليات خارجية شكلية لا تغير من سلوكيات الشعب ولا من النظام المؤسسي لمدة زمنية طويلة بعد التغيير، حتى تتهيأ الظروف لإحداث التغير أو بمعنى أقرب تحويل التغيير إلى تغير .

والثورة المصرية ليست ثورة سياسية إنما هي تغيير ثقافي وثورة ثقافية بالضرورة أحدثت خروجاً على النظام تم الترتيب له من خلال قناة اجتماعية ذات بعد ثقافي هي الفيس بوك؛ لكن ما حدث في تلك الثورة الأخيرة هو تغيير، وتغيير غير مؤذن بتغير قريب، ومن هنا نرى أن الثورة المصرية ربما لا تعدو كونها ثقافة مضادة لا تملك أي تأثير حقيقي في حركية واتجاه الوعي المصري؛ فربما كانت اللوحة أجمل وأفعل لو هدأ الشباب الثائر وتنحى عن الواقع السياسي بعد إسقاط النظام تاركاً الساحة لأهل الحل العقد كل في تخصصه مما سمي وقتها بمجلس الحكماء ؛ فعلماؤنا لديهم من القوة والطاقة ما يبني الأمجاد ويختصر الأزمان، لكن استطاعت الحكومة العسكرية البديلة تمييع أهداف الثورة وتأخير والتقاعس في تحقيق مطالبها الأولية التي تصب في مجملها على المحاكمة العادلة للظالمين، وأعان على تمييع وتسطيح الدور الاجتماعي والسياسي للثورة الميديا التي مسخت الثورة بتحويل المعتوه والعيي وأهل اللجج إلى نجوم يخبطون خبط عشواء بأحاديث ليس من وارئها سوى اصطراخ الأحرف بتجريب الانبهار بالضوء الإعلامي الجديد بينما توارى عن المشهد خبراء نحن بحاجة إلى آرائهم التي تعالج وتبني، أقصاهم النظام السابق إلى الظل ولم ننجح نحن في اكتشافهم، على الرغم من علمنا المسبق بهم وبوودهم ومعرفتنا بما يمكن أن يضطلعوا به من دور في سبيل التحول الحقيقي نحو الحرية المسئولة لدى شعب مصر؛ وزاد المشهد سوءاً انتهاج المجلس العسكري لسياسة الطبطبة ومراعاة الخواطر واتقاء الشر كفى الله الشر . فتحولت تلك المسوخ إلى آلات تحاول جهدها إلى تفريغ الكبوت القديمة وعلى رأسها الكبت الأمني .

لقد شدهني مشهد حركات الأصابع التي استعان بها شاب ثلاثيني في طلب بطاقتي كي أعبر ميدان التحرير، وكنت قد تعلمت من دراستي للسيرة أهمية حركات الراوي المؤثرة والمتأثرة بالفعل (فعل الرواية من قبل الراوي والنص المروي)؛ الأمر الذي دفعني لأن أقول له أنه ينفث كبتا أمنيا قديما ويحاول أن يفعل ما كان يُفعل بهم ولكن ضد إخوانه من المواطنين الذين خضعوا من قبل للممارسات الأمنية ذاتها .

إضافة إلى الخطاب الأرعن الذي بدأ يظهر في اللافتات الإعلامية التي يكتبها الثوار مثل استخدام لفظ أمر في لافتة إعادة فتح مجمع التحرير : تم فتح المجمع بأمر الثورة أو الثوار، فلا وجود لما يمكن الاصطلاح عليه بالثورة لأنها غير واضحة المعالم والثوار أيضا بناء عشوائي غير محدد امعه الوحيد الخرو على النظام الديكتاتوري الفاسد، وبالتالي فقد بنائيته بسقوط النظام، وكان على هؤلاء الثوار التروي والبدء بتشكيل بناء ثوري واضح متخصص له دور معلن؛ كان على الثورة أن توجد نمطا ثقافيا مغايراً هدفه التغيّر الاجتماعي والسلوكي ، ونحن للأسف لا يوجد لدينا في ثورتنا هذه تغير ثقافي ملحوظ لا في المجتمع المصري ولا في المنهج السياسي للنظام البديل, الثورة تحتاج إلى ثقافة مضادة, ولا نمتلك ثقافة مضادة حقيقية في ثورتنا حتى الآن, أضيف إلى ذلك التباس الرؤى والاعتماد الأكبر على السماع والارتجال والشائعات ، يحسبونه هينا وهو عند الله عظيم .

وما يدفعني للقول بأن الثورة في ذاتها ليست ثورة أو ثورة غير مكتملة إلى الآن, أنها غير واضحة المعالم فالأهداف لما تزل نظرية, وهي في جوهرها جملة من المتواليات النصية ذات إيقاع أعجب الناس, دون تحقق واضح أو حتى مجرد شروع في بناء منظومة للتغير الثقافي, إضافة إلى محدودية التغير نفسه فما يحدث الآن ليس سوى تطلعات نحو التغير, والتغير الثقافي نفسه لن يحدث خلال تلك المرحلة اليسيرة.

والمأزق الثقافي للثورة المصرية هو نفسه مأزق النظام السابق في تصوري؛ حيث إن نظام مبارك لم يفطن إلى التغير الثقافي الجديد الذي خلَّق واصلة يسيرة وسريعة تتجاوز الطبقية مثل الفيس بوك الذي استطاع تخليق اتجاه بيئي يتسم بالديناميكية وسرعة التغيير وحدّته، فغفل ذلك النظام عن الآليات اللازمة للتعامل مع تلك الانماط البيئية والاتجاهات الاجتماعية الجديدة فلم يَبْنِ أو يتبنَّى استراتيجيات تسمح بامتصاص التمردات الاجتماعية . من هنا نشأت تمردات اجتماعية داخل بنية الثورة الوليدة وساعد على استشراء ذلك المرود كون النمط الثائر نفسه نمطا عشوائيا لا يملك التماسك الذاتي كلهم التقوا لقاء ظاهريا حول رغبة والرغبات حتى الجماعية لا تبني مجتمعا ما لم تتحول إلى مؤسسة، حيث تصبح الفكرة مؤسِّسةً لمؤسَّسةِ الأهداف التي تصبح بدورها بنية متماسكة لديها من المرونة الذاتية ما يحميها من غوائل الخروج والمرود .

لكننا في الوقت نفسه نؤكد أن الثورة كانت العلاج الناجع والحتمي لحال مصر نحتاج وحسب إلى آلية لإدارة تعاطيه تعاطيا يسمح له بتحقيق الهدف الرئيس ومن ثم الشفاء ، فالثورة بحاجة إلى روية وإعمال فكر وترفع وأثرة وتنازل عن فكرة الحامي والفارس الأوحد التي أغرقت من قبل ثورة عبد الناصر في متاهاتها ، المنتفعون اليوم كثيرون طلعت السادات يريد أن يعيد مجدا يظن بسذاجة غريبة انه عائليا وقد أدهشني خطابه المشير إلى ذلك بوضوح ، أيمن نور يعيد على نفسه الزمن للاقتصاص الانتخابي من جمال مبارك حيث استهل خطابه معتمدا على فكرة دوران الزمن وأنه في علاقة مضادة مع النظام السابق فجمال مبارك بعد 12 ساعة سأل عن زنزانة نور ، وأن الرئيسة سوزان كانت تحاربه وأمور من هذا القبيل ، أما البرادعي فكنت أتمنى أن تكون لديه القوة اللازمة لإقامة حزب لا يرشح نفسه للانتخابات الرياسية القادمة ، ويبدأ في التغيير الثقافي والاجتماعي ـ فشعبنا بحاجة إلى غسيل مخ ومعدة وبدن نحن بحاجة إلى طهارة خارجية وداخلية طهارة الظاهر والباطن ، وغيرهم ممن يستحقون - من وجهة نظر قاعدة عريضة من المصريين - رياسة مصر كالعوا الذي يُعد مأملا لطائفة عريضة من المصريين الذين لا يعرفون صلته بالنظام البائد .

لكن الذي يدهشني ويدخل في المركب الثقافي المصري ومن سمات العقلية المصرية التي تعتمد على الحظ والنصيب وحدوث المعجزة التي أسميها معجزة الغفلة ، حيث أعلن عدد من المصريين ترشيح أنفسهم عطية طه مثلا ومثل أخونا الشاعر السكندري المصري من أنماط نفسيته الدخول إلى المغامرة على أمل أن تحدث معجزة الغفلة تتنازع الأطراف فيأتيه الحظ والنصيب ، أو التحميل على غير المعروف وكأن رياسة مصر جفنة من طعام أو خوان وليمة ، الكل يأمل أن يخطف من فوقه لقمة ، المفترض لدى الدول الحضارية أن لا يستهان بقضية الترشيح للرياسة فمن يرشح نفسه للرياسة دون وجه حق يجب أن يجرس في السوق إن كنا اغلقنا القنوات الفضائية والتجريس بنية عقابية نظامية معروفة في القانون المصري المملوكي لكنها للأسف تعتمد على الحمار وسيلة للتجريس والحمير اليوم بعد سخرية كبرى منها تسخر هي منا اليوم في كل واجهة من واجهات القصابين حيث ومطاعم النجوم المتلألئة .

ولو أوغلنا في استقراء المشهد الذي يعتمد في جوهره على البعد الثقافي منذ اللحظة الأولى للثورة سنكتشف أن جل التيارات السائدة تعتمد على فلسفة الركمجة والطبطبة، ركوب الموجة موجة الشباب الذي رأى لنفسه قوة بإسقاطه نظاما ديكتاتوريا مثل نظام مبارك ، دون تمحيص أسباب السقوط التي في رأسها تداعي النظام نفسه في ذاته ومن داخله ، وعدم حرص نسبة كبيرة من هوامش الداخل على اطراده ، فكانت الثورة هي البارافان الذي استترت من ورائه معاول هدم كثيرة ربما في آخرها هؤلاء الثوار أنفسهم للحد الذي يجعلني في الغالب أخشى ان يكون الأمر في مجمله لا يعدو انقلابا عسكريا قام به الجيش ، قبل أن يجد نفسه في مأزق مدني حقيقي بظهور عدد من المرشحين للرياسة لديهم القوة والنفوذ الشعبي والقاعدة الشعبية المؤهلة .

وإذا تجاوزنا هذه النقطة إلى نقطة أخرى تتعلق بالمشهدية الثقافية للتيارات التي تشكل في مجملها اتجاهات الشعب المصري في المرحلة الراهنة سنجد أن تركيبة الشعب المصري تتشكل من نمطين كبيرين دينيين بالضرورة هما : المسلمون والأقباط . وهما نمطان محيران حقيقة إذ يستند كل نمط إلى نفسيتين، نفسية جماعية ونفسية فردية أو على الأدق نفسية صغرى ونفسية كبرى؛ فأفراد المجتمع المصري من المسلمين والأقباط - تربطهم بعضهم ببعض - علاقة اجتماعية ممتازة أو على الأقل طَيِّبة بجيرانهم ومعارفهم من أقباط ومسلمين، عدا بعض الحالات الفردية المحدودة بينها خلافات غير دينية . لكن النقيض نلمسه في التعامل الجمعي، فهناك فجوة اجتماعية كبرى بين النمطين بلغت حد الانفصال، المسلمون ساذجون والأقباط مغرر بهم والوطن مهدد بينهما بالضياع .

أولا المسلمون: في الواقع كان تاثير الثقافة الإسلامية أكبر دورا من الثقافة العربية في ثورة يناير فكان كفيلاً باظهار العوامل والشروط الكافية لإحداث صراع التغيير أو صراع النمط داخل محاولة التغيير بعد التغير، وهم الطائفة الوحيدة أو الأولى التي ظهر لديها اتجاه التغيير غالباً بحسب استقراء المشهد الثوري منذ بدايته، وحتى في ممارساته الرمزية وطقوسه ، من الصلاة الجماعية والطابع الديني وربط الثورة منذ بدايتها بيوم الجمعة، وجعل الجمعة حدا زمنيا لكل وقفة؛ لكن مطلع اتجاه التغيير لدى المسلمين كان اتجاهاً خلقياً بدأ بدعوة الشعب المصري إلى عدم التعامل بسطحية مع قضية الرئيس المخلوع مبارك، وأن يبتعد المعلقون والمدونون عن التعرض لشخصه والترفُّع عن تجاوز القضايا السياسية والاجتماعية والاقتصادية إلى الشتم والسب والشماتة، وكانوا أكثر حضارية وترفعا في التعامل مع القضية من هذا المنظور وتبنى هذا المنهج الخلقي السلفيون وتبعهم الإخوان .

لكن عند الإيغال في المشهد، نجد المسلمين منقسمين إلى إخوان مسلمين وسلفيين وعامة من المسلمين الملتزمين، وقسم رابع يمكن تسميته بمسلمي الأحوال المدنية؛ وليس من بينهم مؤثر في الاتجاه السياسي مثل الإخوان لكنهم سياسياً يعدون تياراً نفعياً ويعرفون من أين تؤكل الكتف ويجيدون ركوب الموجة السياسية المضادة من بابها الأشد اتساعا ألا وهو الباب الاجتماعي باب الناس .

ثانيا الأقباط : يقع الأقباط المصريون في شرك عظيم ويندفعون في تيار انفصالي وللأسف يقوم هذا النزوع الانفصالي على استغفال وقرطسة صهيوأمريكية للأقباط في المهجر أولا ثم في الداخل على التبعية، إن جاز لي تعبيري هذا، وللأسف المسألة واضحة تماما حيث قرر الأقباط الحاليون أن تقوم دولتهم المزعومة على سيناء ومحافظات القناة، تمهيدا لازدرائهم أو تذويبهم في إسرائيل وتمهيدا لفرض السيطرة الأمريكية الإسرائيلية على ممر من أهم ممرات العالم على الإطلاق، والمسألة واضحة ويسيرة لمن ألقى السمع وهو شهيد.

هذا اتجاه سياسي قبطي من الخارج إلى الداخل، أما الاتجاه من الداخل إلى الداخل فنجد فيه عددا من الخصائص لدى أصحاب ذلك النمط أبرزها الاندفاع نحو التهويل والتلويح بالاضطهاد بوساطة تضخيم الحوادث، واستخدام أساليب أفلام الأكشن الأمريكية فمثلا المهندسة سامية سيدهم رئيس تحرير وطني ترى أن "شبح الدولة الدينية قادم بقوة"، ويتبع ذلك من وجهة نظرها عدد من الأمور في مقدمتها "تهديد أمن مصر القومي وإلغاء الاتفاقات الدولية ومنها اتفاقية السلام مع إسرائيل واحتمالية الدخول في حرب مع إسرائيل"، وأنه "سيتم استغلال الجهل الثقافي، والأمية المنتشرة في سيطرة الإخوان على المشهد".

وتقترن تلك الخصائص بالطموح الجارف مثلهم في ذلك الطموح المندفع مثل الإخوان المسلمين تماماً .

أما الاتجاه القبطي الثالث فهو النمط الذي يتجه من الداخل إلى الخارج وهو نمط يساعد بجدية تامة في هدم مصر مثله مثل النمط الأول، حيث يركز على الاستعانة والاستغاثة والتضخيم والتوقعات المبالغ فيها إن لم تكن مستحيلة، وهذان النمطان الأول والثالث ساعدا في خلق خط دفاع ديني لدى عامة المسلمين لا السلفيين أو الإخوان وحسب، بل إن البعض ينظر إليهم بوصفهم خونة لأنهم يتحمسون للتجربة الأمريكية والتجربة الأمريكية سبق تفعيلها في الخليج والعراق وكانت في منتهى السوء ضد الشعب بكل طوائفه والنصارى من بينهم . وإنني لن أنسى ما فعله الأمريكان في أحداث الحادي عشر من سبتمبر ضد المصريين دون تمييز وقضية عادل إيكاروس من القضايا التي ستظل شاهدا على بشاعة أمريكا في التعامل مع القضايا التي لا تمثل لها أكثر من حقول تجارب للخطط والاستراتيجيات والأسلحة.

أنا لا أدعو إلى يوتوبيا، مطلقا فكل ثورة تقدم أملا هي في ذاتها يوتوبيا، وما قدمته ثورة الخامس والعشرين من يناير كان أكبر من مجرد حلم فسقوط نظام مبارك نفسه من أبرز وأهم الأهداف التي كنا نراها بعيدة المنال للحد الذي جعل عناصر الأمة آنذاك تتخطى سد مبارك فأجمعت فيه في تمردها ضده على مناهضة ما بعد مبارك، فانْصَبَّ التمرد والخروج والمناهضة على حكم جمال مبارك الذي لم يقم لفرط تشبث مبارك الأب نفسه بكرسي الحكم رغم التلويح بجمال منذ وقت مبكر في سياق توريثي عربي بدأ بالأسد وصدام والقذافي وتبعهم مبارك وعلي عبدالله صالح استنعاجا لشعوبهم أولئك الذين استنوقت جمالهم مبكراً؛ فما قدمته الثورة أكبر من مجرد حلم لكنها هي في ذاتها الأمل لتغير الشخصية المصرية وعودتها إلى الفاعلية والاضطلاع بالدور الحضاري الذي خُلقت له منذ فجر التاريخ، وعلينا أن نتذكر أن كل ثورة لا بد وأن تُلاقي مناهضةً ورفضأً بحجج مُختلفة على رأسها عدم وضوح الرؤية والأهداف مثلاً، وأنا لا أعُدُّ ذلك خطراً كبيراً على الثورة فالخطر الأكبر أراه كامناً في فتور مَنْ يقوم بالثورة، ولعل من أبرز نجاحات الثورة المصرية عدم الفتور والثبات وها نحن أولاء في الشهر السابع بالحماس نفسه والقوة نفسها دون تراجع أو انسحاب، لكنني اتمنى أن يلم الثوار بأساليب المقاومة المختلفة التي سيلاقونها وأشدها خطراً مقاومة الممالأة الناعمة كما يفعل المجلس العسكري الذي يرأسه طنطاوي شيخ غفر مبارك الذي كان عليه أبداً الوضوء نيابة عن مبارك .

نحن علينا معالجة رهبة التغير التي تعد عاملا رئيسا في فشل التغيير وإهدار جهود التغير ، وعلينا أيضا أن نوجد فروقا واضحة بين الأشياء التي لا نريد تغييرها وبين الأشياء التي نجاهد لتغييرها ونعمل عليه ، ونفرق كذلك بين التغير السطحي والتغير الاستراتيجي . وأطرح من هنا فكرة تبني نمط السوروكين أو تكامل النسق الفكري الذي يعرف بـ"الثقافة المختلطة"، ومنه سيتاح لنا تطويره بوساطة ما يمكنني الاصطلاح عليه بمسمى التمثيل الثقافي حيث يضطلع كل نمط بتغيير السلوك والنمط الثقافيين تغييرا جوهريا لا يعتمد على التفصيلات التي قد تخلق بيئة من التعصب من جديد .

علينا أن نحدث تغيرا في مفاهيم وأدوار التعليم والصحة والاقتصاد والقضاء ، أن نتعرف على أجسادنا لننجو من مرحلة المراهقة السياسية والجغرافية فليكن لدينا ما يمكن الاصطلاح عليه مثلا بصناعة الترفيه الجغرافي وأن يكون للمصري ميزة حقيقية في الأماكن السياحية والترفيهية وسياحة المعالم ، إننا في الأماكن السياحية ندفع كما يدفع الأجنبي ثم لا نعامل بالاحترام الذي يعامل به لأنه في النهاية سيدفع بالعملة الصعبة لكننا لا نتعامل إلا بالعملة السهلة والإنجليز يقولون Easy comes easy gose فنحن الشخوص السهلة ذوو العملة السهلة ، هذا وصفنا في كتب السياحة المصرية من هنا نشأت ظاهرة الإيجيبتومنيا في المدارس الابتدائية الألمانية بينما نشأت الكليبتومنيا في كفر مصيلحة وانتقلت العدوى إلى جل المصريين إلا من رحم ربي .

علاء الدين رمضان

ساحل طهطا في 16/7/2011م