2007/11/16

صبي على السطح

جوخة الحارثي كاتبة عُمَانية مميزة، لأعمالها صبغة فنية وفكرية شديدة الخصوصية. تنوعت مؤلفاتها ما بين الرواية والقصة القصيرة والقصة القصيرة جداً، لكنها ظلت تحمل الطروحات الوجدانية للأديبة، تلك الطروحات الممثلة دائماً في الذكرى والفراق . الناقد علاء الدين رمضان*، يقدم قراءته للمجموعة القصصية التي نشرتها الحارثي أخيراً بعنوان "صبي على السطح".


النشر الورقي : مجلة القافلة، العدد الخامس، المجلد 56، ص 78 - 85 ؛ شعبان - رمضان 1428هـ / سبتمبر - أكتوبر 2007م



جوخة الحارثي في "صبي على السطح"
الهروب من الانكسار إلى الرمز
ــــــــــــــــــــــــــــــ
علاء الدين رمضان
ــــــــــــــــــــــــــــــ


تعد مجموعة ( صبي على السطح ) للأديبة جوخة الحارثي، من المجموعات القصصية المميزة، التي صدرت مؤخراً، لتضيف إلى ثقافتنا العربية المعاصرة بعداً إبداعياً جديراً بالاهتمام والتقدير، لأسباب منها الصدق وفطرية الطرح وبراءة الرؤية، إلى جانب قدرة الكاتبة على الصوغ الفني البارع وأسلوبها في تسجيل التجربة وإدارة الواقع الجمالي للنص ووقائعه بطريقة تدفع القارئ للتفاعل الوجداني دون روية أو اختيار، وكأنه صاحب التجربة الأم أو طرفها الفاعل .
وعلى مدار ثمان عشرة قصة قصيرة وخمس قصص قصيرة جداً، كانت الكاتبة قادرة على طرح رؤى متزنة في نفسيتها، حتى وإن كانت تلك التجربة تعبر عن طبيعة منحرفة أو غير متوازنة بذاتها، وهذا بدوره يكشف عما يمكن تسميته بالجانب الاحترافي لدى الكاتبة العُمَانية جوخة الحارثي.


· أساليبها المستخدمة :

ولعل من أبرز السمات الفنية لدى المؤلفة، تنوع استخداماتها الأسلوبية؛ إذ استخدمت في مجموعتها ( صبي على السطح ) أسلوب الرؤية من الخارج – وهو أسلوب نادر نسبياً – في بعض قصصها حيث اكتفت بوصف ما يُرى وما يُسمع دون تجاوز ذلك إلى وعي الشخصية ( مثل العرس، ومشوار لسيتي سنتر ).




تقول في قصة العرس: " سلومة جالسة على كرسيها، ظهرها مستند بكامله على المسند، ورأسها لا بالمرفوع ولا بالمطأطئ، يداها على حجرها بالخواتم الذهبية والفضية والأساور والخرز، وقدماها ثابتتان على الأرض بخلاخيلهما، وعلى فمها شبه ابتسامة، كأن فيها من الرضا والمباركة شيئا، أما نظرتها فثابتة، ممتدة على مدى أفقي، لا تكاد ترمش، في رنو مسترخٍ على العروس".

كذلك استخدمت أسلوب الرؤية المرافقة لتعرض بوساطته عالم النص وبيئته من منظور ذاتي داخلي لشخصية بعينها – قد تكون الكاتبة نفسها – دون أن يكون لها وجود موضوعي محايد خارج وعيها، ( مثل جُل قصص المجموعة وفي رأسها قصة "صبي على السطح" التي احتشدت بالشحنات الانفعالية ).




هذا الأسلوب في معالجة التجربة هو ما تسميه الناقدة البلجيكية فرانسواز كيون: الواقعية الفينومينولوجية – الظاهراتية، حيث يعرف السارد أكثر مما تعرفه الشخصيات، لكنه لا يطرح هذه المعرفة أو يفسر بوساطتها خط الأحداث أو الأحداث نفسها أو يبرر بها أفعال الشخصيات أو اتجاه المواقف؛ قبل أن تصل الشخصيات ذاتها إلى ذلك ( مثل قصة "الخيول الراكضة" ). ويدلنا على هذه المعرفة المثالية – وربما المطلقة للراوي – عدد من المظاهر أبرزها عند جوخة الحارثي الجمل الاعتراضية والتعليق أو التفسير الخارجي وإضاءة السياق والاستطراد والملاحظة وهي كلها من المميزات اللغوية عند الكاتبة؛ تقول في قصة (العرس): كأنها قد خلقت لذلك الكرسي، وطوال حياتها لم تعش في غير هذا المكان، كأن سلومة قد وجدت هناك منذ الأزل فوجودها متصل وسيتصل أبداً". وفي قصة ( على الكرسي الخشبي في الحديقة ... جلسنا ) تقول : " كأن الكرسي لن يتوازن إلا بجلوسنا هكذا ".

إذ تعد الملاحظة والاستطراد والجمل الاعتراضية نقاط كشف وإضاءة وتنوير تضيف للنص ولأبعاده الدلالية والأدائية .

أما الأسلوب الثالث الذي استخدمته الكاتبة بسعة؛ فهو أسلوب الرؤية الشمولية ( أو السارد ذو الخلفية المتكاملة الواضحة )، وهو نمط كلاسيكي السارد فيه يملك معرفة مطلقة لا يعوقها عائق عن التدفق خلال الصوغ، وهو أكبر معرفة من الشخصية نفسها، ويستخدم هذا الأسلوب ضمير الغائب؛ تقول الكاتبة في قصة التيمينة : "سيقيم أبوها مأدبة ضخمة، ويذبح خرافا كثيرة من المزرعة، وستوزع أمها الحلوى على الجميع بعد أن يرجعوا من التيمينة، ويمروا بهتافاتهم على كل أنحاء البلد، سيلتهمون الحلويات بلا حساب، وستلعب البنات بالزعفران الذي تضعه أم نورة على وجوههن، ويدعكنه في خدود بعضهن البعض كما فعلن في تيمينة بلال، ولن تنتبه أمها إلى جانب من تجلس نورة، ضحكت نورة بحبور وهي تدندن : هذه تيمينة مبينة فائقة رائعة حسينة.."؛ فالكاتبة هنا ذات وعي كلي متكامل داخليا وخارجياً، فهي تعرف تفاصيل الأحداث الخارجية أكثر من الشخصيات كما تعلم ببواطن ما يدور في وجداناتهم، فنلاحظ استخدامها لسين التسويف وأفعال الاستقبال، كما أنها تدري ببواطن الأمور كما تعرف ظاهرها ومستقبلها؛ فنجد أن نورة عندما ضحكت.. ضحكت بحبور؛ وكذلك في قصة الخيول الراكضة كانت الراوية على وعي مطلق بشخصية ناصر العبد الذي لم يعد يفهم المتغيرات المتلاحقة من حوله : " ناصر العبد لم يعد يفهم، كان يرى الحياة ساكنة، كان يلمس الحياة ساكنة، ولكنه عرف، بطريقة ما، غامضة، أنها ليست ساكنة كما تبدو" .




والكاتبة بذلك استطاعت أن تستغرق ثلاثة أساليب مميزة في نتاج نصها : ما بين السارد الملاحظ أو الراصد للأحداث، والراوي المشارك فيها، والراوي العاكس لها؛ من خلال مراتب، توزعت بين المستويات الأدائية للسارد ومرتبته في النص، ما بين سارد كلي المعرفة أو سارد ذو وجهة نظر، وسارد موضوعي محايد .


· شعرية السرد :
يتميز أسلوب الكاتبة بسمات شعرية مميزة وواضحة، ربما تتجلى عندما تحاول الكشف عن نفسيات شخصياتها، لأن ذلك يكون في الغالب بوساطة لغة شفافة ذات بعد شعري وحضور لغوي واعٍ، قد يجنح إلى الغنائية، تقول مثلاً : " كانت ضحكتها موجة مشاكسة لم ترجع للبحر".

وقد تطور هذا الأسلوب الشاعري في بعض القصص ليصل إلى دور المحرك الرئيس للنص كما هو الحال في قصة ( ماء غير آسن ) حيث ترى عائشة الكلمات عندما تهجر الشفاه المنهكة متصاعدة، ولا يراها سواها، وكذلك في قصة ( الأشياء )، حيث تقول الكاتبة في منولوج خارجي على لسان الشخصية الرئيسة للنص : " آه أيتها السعادة .. عرفتك من رنين صوتك حينما رحلتِ .."؛ فالكاتبة تنظر إلى اللغة بوصفها كيان مستقل أحياناً، لا بوصفها مجرد وسيط دلالي لتوصيل التجربة، وفي سبيل ذلك تسبغ عليها قيماً تجسيدية، وقد تصفها بصفات توحي بأنسنتها، كما أنها تنظر أحياناً إلى اللغة بوصفها بنية مجردة؛ لكنها أيضاً تسبغ عليها استقلالية الوجود، وتسند إليها الأفعال والتحولات، تقول في ( ماء غير آسن ) : " وترتعش ( عودي ) أمام عيني عائشة، ثم تضطرب بقوة، فتركض لتلحق بها، فتفر، فتركض، حتى إذا ما سقطت إعياء كانت ( عودي ) عوداً خشنَ الأوتار، قد اختبأ في الفضاء"، فبين لفظتي "عودي" و "عود" تناسب جناسي في الدلالة، ومظهري في التجسيد .

والكلمات تسهم عندها في تحويل بنية النص واتجاه الدلالة، في ( ماء غير آسن )، تنفي البنية ما يحاول النص طرحه من قيم سلبية تشين سيرة أم عائشة، وكذلك تعبير " الكلمات البيضاء "، يدرأ عنها سوء الظن الذي حاول النص إثباته بقوة، وربما انجلت غمرة النص بينما يظل الغموض عالقاً بذهن المتلقي الذي لا تسعفه أية دلالات لتكوين حكم قاطع على شخصية أم عائشة، وربما السبب الرئيس في ذلك يعود لأسلوب استخدام الكلمات، وإحساس المؤلفة بها .

ومن أبرز أنماط الاستخدام الدلالي للغة لدى الكاتبة؛ الارتقاء بالغرائز عند الحاجة إلى الإحالة إليها؛ فالكاتبة ذات لغة وأسلوب على درجة عالية من الرقي، تحترم الفكرة التي يلوح بها النص وتسبغ عليها ذلك الوقار، حتى وإن كانت إحالة إلى غريزة تصل بين يدي كُتَّاب آخرين إلى الابتذال والإسفاف، والأمثلة على ذلك كثيرة؛ فمثلاً قصة ( المحبوب ) من المجموعة، تحتشد بالإيحاءات والإحالات الجنسية التي تشي بعدم تحقق العلاقة الزوجية، ترسخها عبارات من قبيل: " إلا أن قبضته قد صدئت على المفتاح دون أن تهتدي لموضع القفل"، و: " العجز عن امتلاك المحبوب".

ومن ذلك أيضاً قولها في قصة ( صبي على السطح ): "توتر جسد الصبي وتصلبت كل عضلة فيه وهو يرى خصلاتها تلتصق بجبينها ورقبتها". وهو إيحاء جنسي واضح لكنه غير مبتذل ولا مخل، يرتكز على البعد الإشاري والطاقة الإيحائية الكامنة في لغة المؤلفة وقدرتها على توظيف مفرداتها من ناحية، ومن ناحية أخرى عمق الإحساس بالتجربة الفنية وأساليب نتاجها .

· والتكرار من سمات الأسلوب
أما التكرار فيعد من السمات الأسلوبية لدى الكاتبة، وهي سمات ذات بعد نفسي بالدرجة الأولى؛ لأن اللفظ لن يحمل دلالته عند تكراره للمرة الثانية؛ إنما سيحمل ظلاً إشارياً، بينما يقل المعنى المحمول بوساطته بوصفه معرفة، فلا يقدم جديداً في المستوى المعجمي أو الدلالي للبنية المفردة، لكنه عندئذ يفتح سيلاً من الدلالات الوجدانية والنفسية، ويلعب أدواراً في مجالات بلاغية ونحوية أخرى كالتأكيد؛ تقول الكاتبة في قصة ( المحبوب ) : "وهمست.. همست لي"؛ فالتكرار هنا يوحي بالانفعال، والتأكيد على اتجاه الهمس إليه يزيد الانفعال أهمية لتخصيصه وقصره على نفسه .

ومن أوجه استخدام التكرار عند الكاتبة: التكرار ذو المعطيات الدلالية الضمنية التي تسهم في دعم التصاعد الدرامي للحدث داخل القصة، ولا يقوم دونه البناء النسقي والدلالي للتجربة الفنية، مثل جملة " ندف الغيم الأبيض"، التي كررتها الكاتبة في القصة الرابعة ( في الساعة الأولى ) من قصصها القصيرة جداً؛ حيث وردت الجملة في درج النص وآخره

· التصوير النفسي للواقع :
وللمؤلفة قدرة مؤكدة على استخدام الأبعاد النفسية والوجدانية؛ تضاهئ قدرتها على صوغ تجاربها بأساليب لغوية وفنية بارعة، ومن وسائلها لتحقيق هذه البراعة التصوير وتجسيد الحالات الوجدانية داخل صورة مؤثرة، تتراوح ما بين الرومانسي والدرامي، فتحمل في رومانسيتها المتلقي إلى آفاق من المتعة والتأثر الوجداني، بينما تضعه دراميتها في بوتقة ساخنة من التطهير النفسي، فالمؤلفة تكتب بعض نصوصها وكأنها أغنية رومانسية حالمة وزاخرة بالمشاعر والشحنات النفسية، ومن تلك النصوص: ( بستان الزيتون )، و( جنان )، و( حبة الفاصوليا)..، كما تكتب قصصاً أخرى بمنطوق درامي يشتعل واقعه بالانكسار والضغوط والإحساس بالعجز لحد التحول والتنازل عن السمات الشخصية المهمة كما في ( فراشة البحر )، حيث تغرق الشخصية الرئيسة في الهروب النفسي الذي تولد عنه تحول مادي كناية عن الإغراق في الهروب الوجداني أيضاً، والتقوقع داخل عالمها الخاص؛ بعيداً عن صراعات الحياة والحب والمادة والاختلاس والعوز .

وقد كرست الكاتبة بنية النقيض لتجعل منها مدار الرؤية في قصتها ( نقط خضراء في فستان أبلة فتحية )، إذ تعتمد القصة على بنية التناقض التي شاعت في كل تفاصيلها، فالمدرسة التي يجب أن تكون أماً رؤوماً، تتحول إلى شخصية متسلطة ونفعية، واللون الأخضر المسالم يتحول إلى نوع من التلويح بالعقاب والقهر وحامل الرهبة، ثم فيما بعد العقاب نفسه ممثلاً في الخرطوم الأخضر .

· زمن النص :
تجيد الكاتبة اللعب على وتر مستويات المضي، فالماضي المستدعى بوساطة الاسترجاع قد يقيم له النص حاضراً هو في بنيته الكلية ماض بالنسبة للحظة النص؛ فهذا الماضي الذي تنظم الكاتبة عقده ماض مضيء، متداخل، لكنه يظل حاضراً في نفسها لوضوح أثره عليها وضوحاً سافراً حتى لحظة القص، مما جعل لزمن النص أبعاداً غاية في الثراء والعمق؛ فللتجربة زمن ولمطروحات النص زمن ولدلالته بُعد زمني ثالث، مغاير للبعدين الأولين .

ومن أبرز طبقات الاسترجاع ما عالجت به المؤلفة قصتها ( بستان الزيتون )، حيث أبرزت نمطين من أنماط الاسترجاع، هما :

- أولاً : الاسترجاع القريب؛ ويتمثل في الحلم : " في الحلم الذي لم يتوقف عن الهبوط في نومي / كان الورد لا يلون قدميها ".
- ثانياً الاسترجاع البعيد؛ مثل استرجاع مشهد طعام الإخوة، كما أنه أيضاً نمط ينطوي على الشعور بالافتقاد .

وكذلك تعتمد قصة ( سأصلح القطار ) على الموقف الاستدعائي الاسترجاعي، الذي يختلط برغبة جامحة للامتزاج بالماضي والحرص على استبقائه بل والتفاعل معه، لكن هيهات فما الذي ستجنيه سارة بعد موتها من إصلاح القطار ؟؟...

والانفصال عن الماضي في مجموعة ( صبي على السطح ) بعامة، يصيب الشخصيات بالتوتر ويصيب التجربة بالانفعال وعدم الاتزان النفسي؛ فتحولات رجب العالي كانت لها علاقة مباشرة بذاكرته، وبنية الماضي داخلها؛ إذ اكتشف أن المرأة التي تزوجها وعاش معها كل هذه السنوات، منفصلة انفصالاً كلياً عن الماضي الذي يعيش فيه، أسيرا له؛ إذ " لا علاقة لكل ذلك بهذه المرأة المستسلمة له لأسباب تتعلق بالطبيعة الغريبة للبشر، التي لم تحاول الهرب إلى بيت أهلها ولم تحرمه من الطفلة التي أصبحت في المدرسة "؛ إنما له علاقة بعدم إحساسه بامتلاك النمط القديم الذي أسره، وظل يبحث عنه، لكنه لم يكن له واقع إلا في وهمه .

فنصوص جوخة الحارثي ذات أبعاد زمنية شديدة الخصوصية والحساسية، إذ تتعامل مع أنماط زمنية غير أنماط التجربة في الواقع، مما نشأ عنه افتراق فني بين زمن النص وزمن الواقع، كما في قصة ( نقط خضراء في فستان أبلة فتحية )، وقصة ( فراشة البحر )، وغيرهما .

أخيراً :
تحتشد المجموعة برؤى فنية وصوغية، جديرة بالتوقف إليها وملاحظة دورها في النص من قبيل : المكان والزمن واستخدام الضمائر وبناء الشخصيات، وأنماطها السالبة والموجبة، وعناية الكاتبة بالشخصية النموذج، وبناء العالم الخاص، واختلاق الواقع البديل، واستخدام المعادلات الخارجية الموضوعية والداخلية النفسية . والبنية الوجدانية والبعد النفسي للنص، بوصفه ذا حضور فاعل في بناء جل القصص، وفاعليته في السرد، وانعكاس ذلك حتى على الصوغ من خلال إبراز الشحنات النفسية التي تظهر في النصوص بوساطة الجمل القصيرة، على مستوى اللغة، والأوصاف ذات الأبعاد الإيحائية نفسياً . وكذلك الصور البيئية والتناص والاستعانة بالمأثورات والحكايات الشعبية المحلية والقومية والعالمية؛ أو التراثين الثابت ( الشعر ) والمتحرك ( الحكايات الشعبية والمأثورات النثرية )، واستخدام المفارقة والبنيات الشرطية ودورها في بناء التجربة، واستخدام أسلوب التدوير، وأسلوب التطور المرحلي، واستخدام الألوان والرمز، و التلاحق الوصفي في النصوص، وشيوع التوزع النفسي، والإحساس المفرط بالفقد وانتهاء الدور في كتاباتها . ثم أشير على نحو بارز إلى الاستخدام اللغوي والقصة اللغوية، وعتبات النص : العنوان والاستهلال والنهاية، ثم الناتج الدلالي .

وإجمالاً تعد أعمال جوخة الحارثي بيئة نموذجية للتناول النقدي، ولا أتصور أن دراسة واحدة قادرة على استغراق توصيف أبعاد هذا العالم وسبر أغواره، إنما تظل لبنة في بناء لا يدعم النص إلا كما يدعم الإطراءُ نجاحَ المجتهد .




*************
من قصص المجموعة :

* (1) - صبي على السطح
قصة : جوخة الحارثي

تلفت الصبي فلم ير أحدا وراءه، انسرب من سكة لأخرى، أسلمته الأزقة المظلمة للأشد إظلاما، اقترب من بيت العرس فدار حول نفسه فرحا بالأصوات والأنوار، التصق بالجدار سائرا على أطراف أصابعه مبتعدا عن مجلس الرجال المنفصل حيث فاحت روائح القهوة والحلوى الساخنة ،اجتاز الممر المترب بين المجلس والحوش، تناهت إلى سمعه أصوات ضحك النساء وغنائهن، فتأكد أن الحفلة تقام في الهواء الطلق، وبدأ في تسلق الجدار.
جسده الضئيل لا يشي بأعوامه الثلاثة عشر، أمسك طرف دشداشته بفمه وهو يتسلق الجدار بخفة، زحف بهدوء حتى سطح المخزن، دعس شيئا من الليمون المجفف هناك فلعن أصحاب الدار، ظل منبطحا على بطنه في حين أطل برأسه على حذر فلم ير غير منظر جزئي للحوش المضاء بمصابيح النيون، والمراوح المثبتة على الأرض بقواعد طويلة، وبعض النساء يخطرن حاملات صواني الطعام أو مجامر البخور أو مراش ماء الورد. الأغاني تملؤه، يعرف أنهن يرقصن الآن ولكنه لا يتمكن من الرؤية، تأفف، تلفت، ثم زحف بتهور من سطح المخزن إلى سطح المطبخ الأوطأ، ضاعت ضجة قفزته في الأصوات المختلطة، أصبحت حلقة الرقص على بعد أمتار قليلة، عيناه الضيقتان تتنقلان بحرية بين أجساد البنات الراقصة ووجوههن الفرحة، يهز رقبته وكتفيه، ويدندن بصوت خافت، يرسل بصره إلى صواني العيش واللحم، يتلمظ، ثم يعود ليتابع الخصور المهتزة في الفساتين المطرزة، ينظر إلى الجهة المقابلة فلا يرى شيئا من العروس المغطاة بالكامل، يهز رأسه مع الصوت الشجي :"عند العصر يا الكوس هبي، والزين روح عني مغرب ، ومن بعده ما صفا لي محب.."، يرقصن فرادى ومجموعات ، كلما تعبت واحدة عادت لتقعد وقامت أخرى غيرها، الصبي يصفر بمرح تصفيرا خافتا متقطعا، ويطأطئ رأسه بين الفينة والأخرى حذرا من ضبطه في هذا الكون الجميل المحظور.
اتجهت إحدى البنات بخطوات راقصة إلى امرأة تجلس في طرف الحلقة وسحبتها من يدها، فألفت المرأة التي على حافة الثلاثين نفسها وسط الأجساد النحيلة الراقصة، أخذت تضبط إيقاعات جسدها الطويل المائل للامتلاء شيئا فشيئا، أبصرها الصبي في الحلقة بغتة فلم يبصر ما عداها، بهذا الفستان الفيروزي الطويل الأكمام، واللحاف اللامع، لم يرها وهي تنهض، لم يرها وهي تحاول ضبط إيقاعها، رآها وسط الحلقة، ترقص، مستغرقة في ذاتها، يداها مطوحتان في الهواء، وكل ذرة في جسدها منقادة بلا حول لإيقاع الغناء، أبصرها الصبي فحاول أن يتملاها، زحف على يديه وركبتيه غير آبه بأي عين طائشة قد تلمحه، أطل برأسه الصغير من فوق الحلقة تماما، بحث عن عينيها ولكنه لم يرهما، كانتا غائبتين، وكانت نهشة العشق الصاعقة قد أطبقت أنيابها على روح الصبي، وحدها كانت هناك، وحدها تهز كتفيها بهذا التناغم المدهش، وحدها يتمايل جذعها بلمح البصر، ووحدها دقت بأقدامها الأرض ففتت أصابعهما الحافية قلب الصبي، وحدها كانت، ووحدها ستظل إلى الأبد، والعالم كله قد تلاشى واضمحل ليبعث بين أصابع قدميها، مد الصبي جذعه للأمام، جف حلقه واللحاف يتزحزح عن رأسها شيئا فشيئا، انساب العرق من مفرق شعرها إلى رقبته، تفلتت الخصلات السوداء وتبعثرت، توتر جسد الصبي وتصلبت كل عضلة فيه وهو يرى خصلاتها تلتصق بجبينها ورقبتها، الرقبة الحليب، الرقبة الفضة، يلمع فيها العرق حتى يغسل حبة الخال أسفلها منحدرا إلى النحر، إلى النهر، تدور حول نفسها، تهبط متمايلة إلى الأرض، وترتفع مرتعشة إلى السماء، وحبة الخال تغتسل مرارا بخط العرق المتصل، الذهول يغيب الصبي كما يغيب عينيها، هتفت بنت بشجن:" شفت غزيل شارد بين الغزلان .."، حمل الغزال الصبي على ظهره وشردا معا، تسارعت إيقاعات المرأة وتثنت، كاد الصبي أن يبكي لمخالب الألم الصاعق من تموج جسدها ، جسدها الماء ، جسدها الموسيقى، جسدها النُّبل والنِّبال، جسدها الملتوي حول عنق الغزال، محكم الالتفاف عليه، خانقه، حتى ترنح متهاويا مسقطا الصبي عن ظهره محشورا بين جدارين موثقا بحبال العشق الغليظة.




* (2) - التيمينة
قصة : جوخة الحارثي

منذ تلك اللحظة التي أوقفتها أمها بمواجهتها عرفت البنت الصغيرة أنها لم تعد طفلة، وكان هذا هو أهم حدث في حياتها على الإطلاق.
وضعت الأم يدها اليسرى على كتف نورة النحيل، وناولتها باليمنى مصحفاً أخضر اللون. تلقت نورة المصحف بكلتا يديها، حدقت في نقوشه البديعة المتداخلة، وتتبعت حروف "القرآن الكريم" على غلافه، أسرها الخط الفاتن الذي كتبت به الكلمتان، تحسست الغلاف الصلب القوي، وارتعش بدنها بنشوة الفرح.
منذ هذه اللحظة ستحمل نورة معها إلى الكتَّاب هذا المصحف الكبير الذي جلبه عمها من الحج، كُتِب عليه: "طبع بالمدينة المنورة"، ونورة تحفظ نشيد "طلع البدر علينا"، وتهتز لذكرى المبعوث المهاجر إلى المدينة، وحين تصفحت المصحف مرتجفة كانت زخارفه الداخلية ملونة، وعظيمة، واجتاح الشوق نورة لتدخلها، وتعانقها، وتلتحف بتعريجاتها المدهشة، هذا المصحف الأخضر المهيب به كل السور، كل السور التي يعرفها الكبار ويحفظها المعلم "سرور"، وكل أسمائها موجودة في آخر المصحف: "البقرة .. آل عمران .. النساء .. المائدة .."، حتى السور الطوال التي تفتح باب الجنة يحويها هذا المصحف، وكل هذا لنورة، لها وحدها، وهي وحدها ـ من بين كل إخوتها وأترابها ـ ستحمل اليوم إلى الكُتَّاب هذا المصحف العظيم، في حين سيظل الباقون يحملون مصاحف خفيفة الوزن، بها جزء عم والحروف الأبجدية فقط، أغلفتها باهتة، ولا نقوش بها، ولا يُكتب على غلافها "القرآن الكريم"، يُكتب "جزء عم" فقط. احتضنت نورة مصحفها الجديد، ومضت إلى الكُتَّاب.
الطريق طويلة ومتربة، ونورة تشد المصحف بقوة إلى صدرها، لم تركض لئلا يصل الغبار إلى المصحف، لم تدلع لسانها لحسون المجنون، لم تتوقف لتغمس رجليها في الفلج وتلعب بالماء، لم تمر على بيت زينة العمياء لتقودها إلى الكُتَّاب وتأكل الملبس من يد جدها، لم تتأمل دكة دكان عامر حيث اصطفت الحلويات المترفعة بالأغلفة الزاهية، كانت تمشي كأنها لا تمشي، كأن موجاً هيناً تحتها يدفعها، وشيء واحد على هذا العالم يشغلها: "التيمينة".
بلال ابن الجيران كان عنده مصحف كبير ـ لم يكن من الحج ولا مزخرفاً كمصحف نورة ـ ولكنه ختمه، فأعلن المعلم سرور ذلك على الملأ، وأقاموا التيمينة لبلال.
دخلت نورة إلى الكُتَّاب، تلفتت حولها مزهوة لكن أحداً لم يلاحظ مصحفها الجديد، على يمين القاعة الواسعة المفروشة بالحصر تحلقت البنات في حلقات يقرأن بأصوات رفيعة وهن يهززن رؤوسهن وأبدانهن الصغيرة، وعلى اليسار تبعثر الصبيان بين قارئ وصانع نبل، والمعلم سرور في الوسط متكئ على خيزرانته منكفئ الرأس لم ينتظم شخيره بعد.
ظلت نورة واقفة لبرهة تنقل بصرها فيهم، تخيلت كل هؤلاء الصبية والبنات يخرجون من الكُتَّاب، جماعات متماسكة الأيدي، وتسير هي والمعلم سرور في المقدمة، في حين يهتف أكبرهم:
"هذا أخوكم قد كتب وقد قرا وفاق في الخط على كل الورى"
فيهتف الصبية والبنات: "آمين .. آمين .." ، وينطلقون في جميع الحواري وتحت كل النوافذ مرددين هتافاتهم فرحاً بها .. جلست نورة متربعة على الأرض، وضعت المصحف الجديد في حجرها، وأسندت رأسها إلى الجدار، مجموعة من الصبية أرسلهم المعلم سرور إلى بيت حمد يدخلون الآن منتشين بالانتصار وهم يجرونه من يديه ورجليه، ضحكت نورة، كلما هرب حمد من الكُتَّاب أرسل المعلم الصبية خلفه، وسقاه من خيزرانته الرفيعة.
تخيلت نورة دشداشتها الجديدة يوم تيمينتها، وشعرها المسرح في ضفائر كثيرة، ويد المعلم سرور الكبيرة تقبض على يدها، والصبي يهتف:
"يا ربنا يا قاسم الأرزاق الواحد الفرد العزيز الباقي
هذا الصبي ارزقه علم الأثر وهب له حفظ جميع السور
وهب له الفقه والفصاحة والزهد والعفة والسماحة .."
فيرتفع الهدير من خلفهم: "آمين.. آمين"، وسيمطون كلمة آمين حتى يحدجهم المعلم سرور بنظراته، فيتضاحكون ويعبرون بوابة القلعة الخشبية، ويمرقون بين الضواحي، ويغافلون المعلم ليتراشوا بماء الفلج، وينعطفون بعد مركاض الخيل متجهين إلى بيت نورة .. دقت نورة رأسها في الجدار جذلاً، ولكنها رغبت أن تغير كلمة "هذا الصبي" إلى "هذه البنت"، وتحسست شعرها حيث ستنساب الضفائر، فانتبهت فجأة إلى أنَّ شمسة بجانبها، حذرتها أمها مراراً من الجلوس بجانب شمسة لأنَّ رأسها مليئة بالقمل، وسيسحبها في النهاية إلى البحر، ويغرقها.
لم تكن نورة قد رأت البحر، وتخيلت أنْ تذهب إليه مسحوبة من القمل كما يسحب الصبيان حمد، فضحكت.
سيقيم أبوها مأدبة ضخمة، ويذبح خرافاً كثيرة من المزرعة، وستوزع أمها الحلوى على الجميع بعد أنْ يرجعوا من التيمينة، ويمروا بهتافاتهم على كل أنحاء البلد، سيلتهمون الحلويات بلا حساب، وستلعب البنات بالزعفران الذي تضعه أم نورة على وجوههن، ويدعكنه في خدود بعضهن البعض كما فعلن في تيمينة بلال، ولن تنتبه أمها إلى جانب من تجلس نورة، ضحكت نورة بحبور وهي تدندن: "هذه تيمينة مبينة فائقة رائعة حسينة .."
"أنت .. يا من تضحكين"
رأت المعلم سرور واقفا أمامها، بكامل يقظته وغضبه..
أشار لها بخيزرانته: "والمصحف مقفل أيضا؟ .. أنتِ هنا للعب والضحك؟ .. لم لا تفتحي المصحف وتقرأي؟ .."، وبيدٍ قوية أبعد ظهرها عن الجدار، فسقط المصحف الجديد من حجرها، وأحست بلسعات الخيزرانة المتتابعة.




ــــــــــــــــــــــــــ
* (مجموعة صبي على السطح ، للأديبة العمانية جوخة الحارثي، نشر دار أزمنة، الأردن، 2007م ).

ليست هناك تعليقات: