2012/01/17

أزمة الذات والافتقار إلى الهوية


أزمة الذات والافتقار إلى الهوية
رؤية نفسية في رواية العطر لباتريك سوسكيند

** علاء الدين رمضان **
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ



النشر الورقي : مجلة سيسرا ، العدد الثامن ، ( نادي الجوف الأدبي )، محرم 1433هـ - ديسمبر 2011م

رواية العطر ( Das Parfum )، تأليف الكاتب الألماني باتريك سوسكيند ( Süskind, Patrick )، تُصوّرُ القصّةَ الخياليةَ لقاتل، مِن ولادته في حيّ فقير فاسد في القرن الثامن عشر بباريس، إلى مجده النهائي وموته المريع. على الرغم من أنّه لا يمتلك رائحة خاصة، جان بابتيسته غرينوي ولد مع إحساس مميز بالرائحة . بعد طفولة بائسة وحزينة جداً، وفي النهاية هو نفسه يعمل صانع عطور ويتعلّم هذا الفَنّ القديم بالعاطفة والحماسة .

رواية العطر للمؤلف الألماني باتريك سوسكيند تصدرت بعد صدورها في ألمانيا لائحة الكتب الأكثر رواجاً لمدة تسع سنوات متواصلة . كما تمت ترجمتها إلي 42 لغة وبيع منها أكثر من 15 مليون نسخة في أنحاء العالم..، وطلبها من مؤلفها المنتجون السينمائيون لكنه اعتذر ليقينه بفشل وتعذر تجسيد موضوعها الذي يعتمد على حاسة الشم، من خلال التجسيد السينمائي، هذا الخوف من أن يؤثر فشلها في السينما على رواجها المطبوع جعله يرفض طوال عشر سنوات.. ، لكنه وافق مؤخراً عندما أقنعه المنتج الذي ظل يلاحقه طوال هذه السنوات بأنه نجح في تجسيد الرائحة من خلال الكتاب لأنه أعلم بمهنته، في ذلك الصدد هو يرجو أن يترك له المجال لمحاولة تجسيد تلك الرائحة على شاشة السينما فربما ينجح المنتج في مهنته كما نجح الكاتب في مهنته؛ وربما كان هذا القول مقنعاً حقاً ؛ لكن مبلغ العشرة ملايين يورو التي حصل عليها مقابل حقوقه مؤلفاً.. ربما لعبت دورا أكبر في إقناعه .

باتريك سوسكيند روائي ألماني مهم، ولد في السادس والعشرين  من مارس عام 1949 في بلدة أمباخ ..، على بحيرة شتارنبرغ ..الواقعة على سفوح جبال الألب..، درس التاريخ في جامعة ميونيخ ما بين عامي 1968 – 1974، ثم عمل بعدها في أماكن مختلفة وكتب عدة قصص قصيرة..، وسيناريوهات سينمائية..، ولم يعرف بوصفه كاتباً إلا عام 1981 ، عندما نشر مسرحيته " عازف الكونترباس"، وهي مونودراما من فصل واحد..، قدمتها معظم المسارح الألمانية والأوروبية..، ثم ازدادت شهرته بوساطة روايته الأولى " العطر " 1985 التي ترجمت حتى الآن .. إلى أكثر من عشرين لغة..، وبها وصل الكاتب إلى شهرته العالمية؛ حتى حصل عام 1987 على جائزة " غوتنبرغ " لمنتدى الكتاب الفرانكوفوني السابع في باريس..، وهو يعيش الآن بين باريس وميونيخ، متفرغاً للكتابة ..

·       الـروايــة :
في واحد وخمسين مقطعاً طويلاً تتجمع تحت أربعة أجزاء كبرى تتحدث الرواية عن شخصية جان باتيسته غرينوي المولود عام 1738 في المكان ذي الرائحة الأبشع علي وجه الأرض في مزبلة سوق السمك وتحت طاولة تنظيف السمك، من أم بائسة تعمل في شارع قذر حيث فضلات الأسماك التي تعمل علي تنظيفها تجسد القذارة، وكان في نيتها أن تتركه هناك مع تلك الفضلات كي يموت ويلقي في النهر مع نفايات السوق، وهذا ما فعلته مع أربع ولادات سابقة، لكن افتضاح أمرها، والقدر الذي سيرافق هذا الطفل قد ساقاها إلي الإعدام، أما الطفل الأعجوبة فقد تنقل بين المرضعات اللواتي كن يلفظنه دون أسف عليه لما يبثه فيهن من الرعب والقشعريرة، ولم تقبل به سوي مرضعة، لا تشم ولا تشعر.. كأنها ميتة من الداخل.. كان هذا الطفل يمتلك حاسة شم فريدة، ساعده علي تطويرها العطار بالديني ، الذي علم غرينوي كيف يستخلص المرء العطور ويحفظها، واستفاد منه في التخلص من منافسيه، لكن هدف غرينوي كان أبعد من كل تصور.. لقد قتل العديد من النساء الشابات ليستخلص منهن خلاصة العطر النقي.. عطر الحب.. العطر الذي يستطيع السيطرة به علي الآخرين بعد أن بدأ سلسلة جرائمه ببائعة البرقوق التي كانت فاتحة عهده في البحث عن عطر العطور، حتي إذا ما أدين في النهاية بقتل النساء، واستحكمت حوله قبضة العدالة، تحول المتفرجون الحاضرون لمشاهدة عملية إعدامه.. إلي عشاق لا احد يستطيع وصف مشاعرهم غير العبقري سوسكيند. وهم ينظرون بعطف لذلك القاتل الغامض الدموي والعبقري في فظاعته، والبشع ولكن ليس إلي درجة الاشمئزاز؟ وكان انهيار المشاهدين مشهدا غريبا وفريدا.. بفعل العطر الذي يشارك غرينوي بطولة الرواية، فهما المحركان الرئيسان لأحداثها، وما يتبع هذه الأحداث من تداعيات مختلفة ومحيرة وقاسية ومقززة.. غرينوي بأفعاله الشيطانية القاسية، والعطر بتأثيره الطاغي والمعربد والعابث بالمشاعر.
تلك الأفعال الشيطانية، لا يمكن لمحلل أن يصفها إلا بالقاسية، لا الفاسقة، لأنه كان بعيداً عن الفسق في تعامله مع البنات اللائي يختطفهن ليستخلص منهن الرائحة الإنسانية، فهذا القاتل ، صانع العطر، أراد أن يخلق نوعاً من العطور التي لم يعرفها العالم بعد ، عطراً يملك مسحة بشرية، وهو مستعد لعمل أي شيء لكي ينفذ خططه . فيَقُوده هوسه للقَتْل : عندما رأى أن رائحة بَعْض البنات الشابات العذراوات يمْكِن أَن تساعده على إنْتاج تلك الرائحة " السماوية ". بينما أحداث القصّة تتصاعد، يَشْهد القارئ بَعْض جرائمِ القتل المُخيفة التي يرتكبها غرينوي. والقارئَ مغمور بمياه الشر ذي الدوافع الإنسانية، في بيئة مظلمة، حيث الجنس والموت، الجريمة والولع يتحالفان، وحيث الذنب يقود إلى نصر شخصي. التحليل النفسي للرواية هو القادر على دفع المتلقي لاكتشاف بعض الجوانب الغامضة في شخصية غرينوي، ويساعدنا على فهم الحالات العقلية المختلفة التي تقوده للقتل أيضاً.

·       البناء النفسي للرواية :
جان باتيسته غرينوي ولد في 17 من يوليو سنة 1738م بباريس، " في أكثر البقع فساداً في المملكة الفرنسية بأسرها"، تظهر هذه البقعة كريهة الرائحة والكئيبة والمظلمة بوصفها إنْذاراً بالمستقبل الكئيب الحزين للطفل الرضيع البريء. فعيد ميلاد غرينوي مرتبط برائحة نتنة قوية نفاذة، هي خليط من الموت والتفسخ : " الرصاص المنصهر ينصب فوق المقبرة، معتصراً بخار العفن، مزيج من البطيخ المتعفّن، والرائحة النتنة لقرن حيواني محترق، ينفث خلال الممرات القريبة". منذ البدء، يَبْدو أنّ غرينوي والروائح يتواصلان بعمق. يصر المُؤلف على أهمية هذه البيئة كريهة الرائحة التي تحيط بغرينوي الطفل الرضيع. هذا الوصف المبكّر محتشد بالدلالة. النكهات، الروائح، "العطور" كلها عناصر مركزية للقصة، وتلعب دوراً رئيسياً في جرائم القتل التي تتلاحق؛ أيضاً، أمّه لم تكن مرحبة بولادة غرينوي. هي نفسها قاتلة وتخلصت من أطفالها الرضع الأربعة الأولين. وغرينوي الخامس الذي تمنت بل شرعت فعلاً في قتله. فمنذ البداية، لم يكن فقط غرينوي وليد حي فقير متعفن ذاك الذي يصوره بوصفه حيواناً أكثر من كونه طفلاً إنسانياً رضيعاً، لكن أيضاً هو لَم يكن يقصد أن "يكون" كذلك مطلقاً. أمّه قبل فترة طويلة قد خطّطت لقتل "وليدها". على أية حال، تعتَقل أمه بسرعة ثم تُشنق، و غرينوي ينجو. من وجهة نظر التحليل النفسي، القارئ يمكن أن يتوقع أنّ غرينوي قد يصبح هو نفسه قاتلاً، لكون معظم الأطفال يعيدون إنتاج جرائم آبائهم أو أضعافها، كما يقول فرويد. بالإضافة إلى ذلك، طبقاً لنظرية فرويد للتحليل النفسي، نحن يمكن أن نصل للشرير، متدبرين مشكلة غرينوي القاتل، مع حقيقة كونه صاحب طفولة صعبة وحزينة جداً.

·       الأزمة الداخلية :
بشكل مؤسف، حظَّه السيئَ يظل يلاحقه، لأنه " في ذلك الحين غير المرضعات ثلاث مرات "، مهما يكن فالمشكلة حقاً في هذه النقطة، إنه لا يحظى بأيّة مودة، أية عاطفة مطلقاً . يَبْدو أنّ هذا الأمر نوع آخر مِنْ " سوء الحظ "، وهذا يعد أكثر شبهاً باللعنة؛ وقَد يَكُون إلى حد ما الخطأ في غرينوي نفسه : " لم يرد أحد إعالته لأكثر مِنْ أيام قليلة ." غرينوي يرضع بقدر رضيعين"، وهو ما يُنذرُ بطمعه وأنانيتَه عندما يصير فتياً، فيما بعد في القصّة . ثمّ، تدفع به مرضعته الأخيرة إلى الأب تيرير. لسوء الحظ، كان خائفاً منه، أيضاً عندما أخبرته بأنه ممسوس من قبل شيطان : " إنه لا يشم مطلقاً. إن به مساً من الشيطان"؛ فأعطي الطفل الرضيعَ بعدئذ للسيدة جايللارد، التي لا تعبأ كثيراً بما يتعلق بحالة غرينوي الغريبة. كان الأولاد الآخرون يحاولون خنق الطفل الرضيع عدّة مرات، لأنهم خائفون منه. فيفشلون في كل مرة : ربما يكون لغرينوي نوع من القوى الطبيعية الخارقة. الحقيقة إنه كائن استثنائي أَو إنه قَد لا يكون بشرياً مطلقاً، يقدمه بوصفه كياناً منفصلاً ويَزيد من عزلتَه وخلوتَه . بتعبير آخر، غرينوي لَيْست لديه رائحة خاصة وهو ما يجعله " وحشاً ". على الرغم من أنه لا يضاهى في إحساسه بالرائحة، إنه خارق تقريباً، لا أحد يَهتم بغرينوي أبداً. فتظل مرفوضة طفولته تماماً . هو لا يعرف ماذا يعني الحب منذ استهل الحياة .  لذا، هو قد يفهم " الحقد" على نحو أفضل، وتحبس نفسه في الظلام الأفكار الشريرة . إذا طبقنا نظريةَ فرويد للرغبات المكبوتة على قصّة غرينوي، يتضح أنّه رُبَّمَا قَمعَ مشاعرَه وأكثر رغباته الشخصية أثناء طفولته فجرائم قتله العديدة والشنيعة قد تكون " استجابة لصدمة "، نَتيِجة أزمة " داخلية " أثناءها يخرج مشاعره الخفية :  غضبته، إحساسه العميق بالعزلة، حقده على الناس والبشر بعامة . إنه يواجه بجلاء معركة بين " أناه " ( النفس الواعية ) و" هويته " ( النفس غير الواعية )، التي تؤدي إلى خروجه من " هويتِه "، بمعنى، التعبير عن أفكاره السرية . تلك المشاعر القوية، التي بقيت طيّ الكتمان لمدّة طويلة، " تَنفجر " إجمالاً في نتائجها المرعبة .

·       الافتتان بالنفس :
عندما يُقابلُ صانع العطور بالديني للمرة الأولى، في باريس، يعرف غرينوي أن بالديني ليس صانع العطور العظيم على الإطلاق. فالولد الصغير يعتقد أن هذه العبقرية الخاصة يمكن أن تساعد بالديني ليصبح مزدهراً وناجحاً مرة أخرى . حتى قبل أن يقبله بالديني بوصفه متدربه الجديد، غرينوي، الذي كان واثقاً من نفسه جداً، يعرف أنه سيحصل على الوظيفة، وأن هذه مجرد بداية لنجاحه الباهر الخاص : "لقد فاز بفكرة أنه منتمٍ إلى المكان وليس لأي مكان آخر عداه، أنه سوف يبقى هنا، أنه من هنا، هو سوف يهز العالم من أُسُسِه." لذا، في عمر صغير جداً، غرينوي، قد أدرك إحساسه الاستثنائي الخاص بالرائحةِ، مطوراً شخصيته النرجسية. هو يعرف أنه عندما يبرع في كل التقنيات، سوف لن يبقى في ظل بالديني، وسيصبح ناجحاً بنفسه. إضافة إلى أنه بعد أن يقتل العذراء الأولى، غرينوي لم يندم مطلقاً. بالعكس، "لم يسبق في حياته أن عرف ماذا تكون السعادة." إنه منتشٍ، في حالة من نعمة الصفاء والبهجة. غرينوي الشرير يعيش بلا ريب في عالمه الخاص للأعمال الشريرة وشهواته المرعبة. مقتل البنت الشابة البريئة من روي ديس مارايس يجعله يدرك أنه يريد خلق "رائحة رئيسة" العطر الفاتن الذي سيمكنه من استعباد الناس. شخصية غرينوي المتغطرسة أوحت بأنه: "أحس كما لو أنه أخيراً عرف من كان هو : لا شيء أقل من عبقري." يعتقد أنه بدون شك يستطيع أن يكون صانع العطور الأمهر من أي شخص آخر : " هو وحده في كل العالم حاز الوسائل للفوز به على حدة : يعني، أنفه الخارق، ذاكرته الاستثنائية." سوسكيند يصوغ سلوك غرينوي النرجسي : "هو وحده في كل العالم"؛ "هو يجب أن يصبح مبدع الروائح "؛ "وليس مجرد شخص عادي. لكن، بالأحرى، صانع العطور الأعظم." في مقالته حول الافتتان بالنفس( النرجسية )، يلاحظ فرويد أن فرداً مع اضطراب شخصية نرجسية لها إحساس مبالغ فيه بتفرده الخاص واستثنائه، تلك هي حالة غرينوي. غرينوي يعتقد أنه يمكن أن يصبح صانع العطور الأعظم الذي لم يسبق له مثيل. لقد فقد الإحساس بالحقيقة؛ تطلّعاته إلى حد بعيد كبيرة بالنسبة لرجل صغير فقير مثله. أيضاً، هذه الثقة المتطرفة يمكن أن تكون نتيجة طفولته، عندما لم يؤمن به أحد أبداً وعندما كان يعيش في عزلة عميقة. غرينوي ربما بنى حاجزاً بين نفسه والآخرين، لكي يحمي نفسه. هذه هي الحقيقة أنه يملك إحساساً فريداً بالرائحة وذاكرة استثنائية لكل الروائح، لكن تطلّعات غرينوي تثبت أن عنده شخصية نرجسية. أيضاً، الفرد النرجسي يهتم بأن يصبح شخصية غير اجتماعية، ليبرهن على الافتقار إلى العاطفة، ولاستغلال الآخرين لكي يكون ناجحاً. هذه هي حالة غرينوي الأناني الذي يستعمل العذارى الشاباتَ ( يقتل بعض العشرات منهن في بلدةِ جراسي ) لكي يخلقن أفضل عطر الذي سيُصنع من كل أريج البنت. غرينوي يختار العيش في جبال ليز سيفينيز، لأن لا أحد يمكن أن يزعجه هناك. إحساسه الخاص بالتفرد يصبح مفرطاً، مما يثبت أنه يعاني من اضطراب الشخصية غير الاجتماعية: "هو كان حقاً متوحداً تماماً! كان الإنسان الوحيد الموجود في العالم! "إضافةً إلى، أن غرينوي يحاول بناء صورة مثالية لنفسه. هو يريد أن يكون "غرينوي العظيم " : نوع من أن عباد الله يجب أن يعظمونه : "هم يحبونه كما أقاموا تحت سحر رائحته، ليس فقط يقبلونه بوصفه واحداً منهم، لكن يحبونه إلى حد الجنون، من نكران الذات، هم بالبهجة سوف يرتجفون ، يصيحون، يبكون من أجل الرحمة، إنهم سوف يغرقون إلى ركبهم، كما لو أنهم تحت بخور غيبي بارد." هذه الشخصيةِ النرجسية تؤكد أن غرينوي "الأنا العليا". في نموذجِ فرويد ذو الأجزاء الثلاثة للطبع، الهوية والأنا يجب أن يتفاعلا مع "الأنا العليا". غرينوي يطور أنا عليا، ربما بسبب عملية الكبت المؤلمة، لكي يملك أعظم صورة مثالية لنفسه.

·       قاتل على حافة العالم الحيواني
دوافع غرينوي بالنسبة لجرائم القتل نفسها واضحة. إنه يقتل لأن القتل طريقة للحصول على الرائحة، بينما يقصد إلى غايته، وهو قادر على القتل لأنه غير أخلاقي . وهذا أيضاً يبدو واضحاً ومنعكساً في عجزه عن إدراك مفاهيم مجردة متعلقة بمبادئ خلقية مثل " الحق Recht، الضمير Gewissen، الله Gott، البهجة Freude، المسؤولية Verantwortungإنه يظهر عدم تقدير لنتائج أعماله على الآخرين وجرائم القتل ليست لمتعة إيقاع الألم بالآخرين، لكنها على الأدق لبلوغ غايته واستخلاص عطر البنات، وحشيته تبيح له اعتبار القتل طريقة مشروعةً لتحقيق رغباته . على الرغم من المبررات وراء وحشيته فهي غير واضحة، كما أن الدافع وراء رغبته في الاستيلاء على عطر البنات.
تفسير واحد يتعلق بنظريته الغامضة " على حدود الإنسان والعوالم الطبيعية "، حالته بوصفه كياناً بشرياً باستمرار وجوده يثير فيه الريبة . حالته عديمة الرائحة تبدو لتجريده من ادعائه الصفات الإنسانية، مع واصلة مبكرة بين المؤسستين في الرواية، عندما اعتبرته المرضعة معتوهاً لأنه "لا يشم الروائح كما يجب؛ er riecht nicht wie riechen sollen" ، وعندما يشم غرينوي راهبا أبوياً، " نقص مجموع رضعاته الإنسانية على ما يبدو قد مكنته من النفاذ إلى عمقِ روح الراهب". يمكن أن يدل هذا على وجود عنصر خارق، فكرة محتملة، على سبيل المثال، بوساطة عاهة قدمه والوصلة الحتمية مع الشيطان التي تنشأ فيه .
إن فكرة غرينوي بوصفه حيواناً أكثر منه إنساناً تكون أيضاً ذات وجاهة والتلميحات الوحشية المستعملة في الارتباط مع خطابه وحركته المتكررة . فهو " يهسهس zischelte "، على سبيل المثال، و" يقعقع schnarrte ". هناك تلميحات عديدة إلى غرينوي بوصفه " على الذروةein Zeck  "؛ والقياس يمكن أن يكون ظاهراً باستمرار عندما يكون سلوكه تجاه الآخرين مدروساً . إنه يرضع جفافهم، " معززاً وجوده بطريقة ما "، كما هي الحالة مع جين بوسي والسيدة جويللارد وجريمال، أو يعزز أهدافه ذات العلاقة بالعطور، كما هو الحال مع بالديني، ودروت والمركيز "؛ لكننا نجد أنه بينما غرينوي يتعلم، ويتطور وينشط، كل هؤلاء الأفراد يلتقون مع موت غير طبيعي…. إننا ندرك أن غرينوي القرادة التي تخرج دائماً متخمة بالدم، مخلفاً وراءه ضيفاً ميتاً كان قد امتصه حد الجفاف".
إن اعتماده الفعلي على إحساسه بالرائحة ينسبه فوراً إلى الحيوانات، مثله هي الأدنى لكنها الأقدر شماً بين البشر، والشيء الذي عليه تعتمد الحيوانات في أغلب الأحيان، في حين كان غرينوي منفياً مقيماً في الكهف ، نجد المؤلف يصفه بصفات هي خلاصة الوجود الحيواني، لعق الماء من المستنقع وأكل الحشرات والسحالي للبقاء.
لو أن غرينوي كان في الحقيقة حيوان أكثر منه إنسان، عندئذ سنجد في تصرفاته ما يمكن أن ينظر إليه ليرى في هذا الضوء كأنه كذلك فعلاً . فالحيوانات تقتل من أجل البقاء، وهناك أثر دقيق غير ملحوظ، إن بقاء غرينوي مرتبط بالشم . مرضه عندما يعتقد أنه لا يستطيع الحصول على رائحة الكيانات البشرية يبرهن على احتياجه الطبيعي للروائح . حاجته إلى تملك رائحة البنت الأولى في باريس وبعد ذلك لورا ريتشي يرتبط بشكل معقد بغاية حياته تماماً .
على الرغم من ذلك فكرة غرينوي بوصفه حيواناً هي تباعاً تكون معلنة للتشكيك فيه بوساطة قلة خوفه من الموت، ذلك السلوك الثابت بانتحاره المبهم وقلة رغبته في التناسل، كلاهما جوهري بالنسبة إلى الحيوانات . حقاً على الرغم من أن المشاهد تصف منفاه في الكهف بأنه جنسي غالباً، أجساد البنات تظل " لم تمس unberührtلأن تعلقه الوحيد برائحتهم . إن الغموض على هذا النحو مكتمل والقارئ لم يمنح أجوبة حاسمة بخصوص حياة غرينوي مطلقاً .
ربما هذا يعكس أزمة غرينوي الخاصة في افتقاره إلى الهوية، وقد ثبت ذلك في افتقاره إلى الرائحة الشخصية، الميزة الوحيدة أنها قدراته ووسيلته هو نفسه التي يستعملها لتمييز الآخرين . إننا أيضاً نرى علامات أخرى لفقدان الهوية في مكانة سطحية في حافة المجتمع، لا يؤبه به عندما يغادر باريس، على سبيل المثال وغير مفتقد أثناء منفاه، افتقاره إلى الأبوة الثابتة والحقيقة، ذلك بأنه لم تطهر روحه بعد الولادة ( أي لم يعمّد ). هذه الأزمة الشخصية معاقة أيضاً بوصفها تفسيراً لرغبته في الحصول على رائحة إنسانية، وارتباكه الذي ربما يبدو منعكساً بوساطة إبداعه الروائح الإنسانية المتعددة، لكن ثانية المدى الذي بلغته هذه السيادة ظل غامضاً حتى النهاية  .

·       عالم الجريمة والغموض :
رواية سوسكيند بلا ريب تتخاصم مع المعايير المؤسسة لقصة الجريمة. وطبقاً لطبيعة نوعها الأدبي، يتوقع القارئ الأجوبة. فالرواية يجب أن تبرر الغموض، وتوضح ما يبدو أنه غير قابل للتوضيح والقارئ ينشد الكشف عن القاتل والطريقة والدافع . على الرغم من ذلك فرواية العطر تربكنا . إننا مباشرة وجهاً لوجه مع القاتل، يسلبنا الغموض هنا. إن طريقة القتل غير استثنائية على النمط نفسه، مكشوفة بشكل عشوائي وبدون تشويق. السر الوحيد الذي يبقى المخاوف دافعاً لأعمالِ غرينوي. تشكيلة الخيارات التي ألمح عنها، تتعلق بشكل أكثر خصوصية بحالاته الغامضة بوصفه كياناً حيوانياً أو إنساناً أو خارقاً، طبيعة العبقرية الفنية، دور معاملته بوساطة المجتمع وغرينوي بوصفه تجسيداً للشر. تحقيق هذه المواضيع المركزية يكشف عن كثير من حالات غموض المبدأ المقدم في الرواية. الألغاز التي تنشأ عن هذه الحالات من الغموض بخصوص الفهم الحديث للمبادئ الخلقية يجب أيضاً أن يُبحث كما يجب أن تقدم الأحاجي في النص لكي يضع الرواية ضمن سياقها ما بعد الحداثي .
فرواية العطر تعد رواية كشفية وقد تبدو ساخرة . لأن ميلنا الفطري للتفسيرات سنكتشفه في التراصف المثير لعالم بالديني بمعتقده الديني النفاقي ورفض التبرير ودخول الأب تيرير في انسجام عقدي واهتمامه بالعلم، على الرغم من أن حبه للراحة، مادياً وروحياً يعوق المزيد من التحليل داخل العمق أو اعتبار معمقاً! لكن دور الدين والعلم يبقى غير واضح . في نوع أين التفسيرات إنها ضرورية، لا حلول إنها معروضة بخصوص دوافع غرينوي لخلق عطره، ولا وحشيته المبررة .
وهناك عدد من حالات الغموض الأخرى يرتبط بدور الفن والفنان في هذه الرواية. العبقرية الفنية مقدمة بوصفها تأثيراً بناء وتدميرياً . فبالديني أب العبقرية وبعد ذلك استغلال فن غرينوي يسمح لمحتال الشهرة والثروة يتطلع ويستغل موهبة غرينوي الفنية وتجارة السيدة آرنولفي للنجاح، تشير إلى إمكانية الفن البناءة. برغم ذلك يشهد رحيله سقوطهم، ولو أنه ليس كنتيجة مباشرة. على نحو مماثل هناك شيء شاعري حول دور الفن الآني بناءً وهداماً . يقتل غرينوي البنات الشابات الجميلات لكي يحفظ جوهرهن، يواجه مفهوماً عصرياً للفن ربما سيكون له قدرات معالجة إيجابية . هذه الآراء المعارضة لدور الفن تبقى غير متصالحة على أية حال، يستخدمها المؤلف لإثارة الغموض وحسب .
كما فعل في إشارته إلى تأثير التكيف الاجتماعي في التطور الشخصي لغرينوي، إن الخصائص الإنسانية المطورة بوساطة غرينوي هي سلبية بشكل خاص ومحاكاة لأولئك الأشخاص الآخرين . فحاجته الجشعة للاحتفاظ بالروائح المتماثلة، على سبيل المثال، وطمع بالديني وحشده للروائح . هل هي صدفة أن أمنيته ليكون معشوقاً أَيّ يكون ظاهراً بوساطة تخيلاته هو نفسه بوصفه قيمة إلهية تردد رغبة الماركيز ليعد عالماً مبتكراً مع اكتشافه مادة مهلكة ؟ لا مبالاته يمكن أن تكون نتيجة الانفصال العاطفي لـ " قوى الأرواح seelenarmen ". إن الاتصال بين التنشئة والشخصية الناتجة والتنمية الاجتماعية ملموس بوساطة مثال السيدة جايللارد، التي، ورثت هزيمة أبيها فاقدة إحساسها بالرائحة و" ساقطات يتعاطفن مع الدفء الإنساني والفتور الإنساني وكل عاطفة بعامة jades Gefühl für menschliche Wärme und menschlich Kälte und überhaupt jede Leidenschaft ".
على أية حال، يترك المؤلف القارئ لتقرير كيف يعزى التأثير للطفولة ومعاملة غرينوي في المجتمع وهل هو يستطيع أن يصفح عن مثل " عدم الملاءمة البشع الذي تعد أهواله مجرد نذير بالثورات والقلاقل المرعبة لأزمنة أكثر حداثة ". إن القضية مبهمة لدى سوسكيند أو قصد ذلك .
هي ليست صدفة أن بناء وتأليف رواية سوسكيند يقلد العملية التي تصنع بها العطور . إنها رواية مكتظة بالإشارات الأدبية، من جوتة إلى هوفمان، تحتوي على توريات متعددة، ومعان مزدوجة وحالات من غموض .  إنها باختصار منبعثة قبل القارئ، تقريباً بينما يمسك غرينوي نسمات الروائح قبل أن يهجره الشعاع، يكد ليجعل النص غامضاً عن قصد .
في حيلة متعمدة مما بعد الحداثة، أغلب الأسئلة المطروحة تظل بلا جواب والغموض، يجعل الأمر صعباً بالنسبة للقارئ إن أراد الوصول إلى الاستنتاجات المؤكدة وتمثيل الحقائق الخلقية العالمية . لكنه بدلاً من ذلك يتركنا مع سلسلة من الألغاز الخلقية المتعلقة برسالة ومعنى الرواية ككل، مرددين رفض ما بعد الحداثة للعديد من الوقائع والحقائق المطلقة المشروحة بوساطة الحداثة. لا الدافع وراء خلق غرينوي للرائحة ولا الأسباب لوحشيته المنصوص عليها . إن فكرة وجود غرينوي الحيواني أو الخارق، مسؤولية المجتمع وطبيعة عبقريته الفنية مطروحة للمناقشة، لكن أدوارها غير معرفة. ربما القارئ يوضع في دور المكتشف ويترك للإجابة على أسئلته الخاصة لكي يجيب أسئلته الخاصة. ربما الرواية أكثر رفضاً ساخراً لإنتاج التفسيرات والرسائل إننا نتوقع ونريد من مثل هذه القصّة المعقدة، شاياً يحدث القارئ بوساطة إثارة الأسئلة بدون أجوبة. بالتأكيد لا توضيح لهذا معروض من قبل سوسكيند.

·       للاستنارة :
1 - Jacobson, Manfred R. “Patrick Süskind’s Das Parfum: A Postmodern Kunstlerroman” The German Quarterly (1992), p203 & p205
2 - Ryan, Judith, “The Problem of Pastiche : Patrick Süskind’s Das Parfum”, The German Quarterly, (1990), p396-398 & p399
3 - Süskind, Patrick, Das Parfum: die Geschichte eines Mörders, Zurich, Diogenes Verlag, (1985), p16, P25, p27, p29, p33, p92, p96, p251, p156 .
4 - Whitinger, R.G., Herzog, M. “Hoffmann’s Das Fr ulein von Scuderi and Süskind’s Das Parfum: Elements of Homage in a Postmodernist Parody of a Romantic Artist Story”, The German Quarterly, (1994), p233.

ليست هناك تعليقات: