2007/11/16

تفاحة البدوي اليابانية
رؤية: علاء الدين رمضان
ورقة ارتجالية مقدمة إلى احتفالية محمود البدوي
بقصر ثقافة أحمد بهاء الدين بأسيوط
الاثنين 22 من مارس 2004
محمود البدوي راهب القصة القصيرة المصرية، زاهدها الذي أعطاها كل جوارحه ولم يسع من وراء ما أعطى إلى ما يعود عليه بالنفع، فزهد في البحث عن مردود إبداعه عليه من عناية الدارسين والأدباء، فكانت له اليد العليا في ما لحق به من ظلم، وإجحاف وإغماط حق؛ إلا أن الباطل لجلج والحق أبلج فيزول الباطل وجواهر الأشياء تبقى، ومن هـذا المنطلـق زالت أغطية الباطل عن جواهر الحق فخرجت للحياة الأدبية كنوز إبداعية رائدة مثلما هـو الحال مع محمود البدوي ويحيى حقي ومن لف لفهما، إذ بدأت الدراسات الأدبية مؤخراً في درس آثار هؤلاء الرواد الذين أثروا الحياة الأدبية بكنوز طمرتها الأساليب الموجهة في التناول والدرس، حتى في الصروح العلمية، وما إن تخلصت الدراسات النقدية من الدوافع الموجهة وما كانت تكبلها به من ربقة حتمية الاتجاه، سواء كان ذلك أيديولوجيا سياسيا، أ م عقدياً أم غير ذلك، وعلى أيسر الفرضيات : التوجه اللغوي البحت أو القُح في التناول .
إن محمود البدوي ابن قرية بني زيد الأكراد مركز أبنوب بمحافظة أسيوط، الذي ولد سنة 1908، قد ملأ الدنيا تغريدًا وشدوًا وسفرًا وانطلاقاً وبدأ يقيد أعماله الإبداعيـة في مجموعات منذ عام 1935 إذ بدأ بمجموعة الرحيل وظل يقدم للمكتبة العربية عددًا ثرياً من الأعمال الكثيرة كمّاً . الكبيرة كيفا ً ومضمونا ً وعطاءً و إبداعا ً فقدم علامات مهمة في طريق القصة الفنية القصيرة في الأدب العربي مثل رجل وفندق الدانوب والذئاب الجائعة والعربـة الأخيرة وحدث ذات ليلة والعذراء والليل والزلة الأولى وعذراء ووحش وغرفة على السطح وصقر الليل ومساء الخميس والسفينة الذهبية والباب الآخر وصورة في جدار … حتى أنهى مكتبته الإبداعية بمجموعة السكاكين عام 1985 وتوفي رحمه الله في الثاني عشر من فبراير عام1986م.

والمتأمل في عناوين المجموعات تتجلى له واقعية محمود البدوي أشبه بتجسيد مرئـي ووجداني ورمزي لأحداثه كل ذلك في مزيج واحد تغلفه رومانسية شفافة ليس في أعمالـه مباشرة الواقع وسطحية الواقعية ولا تهافت الرومانسية ومعاظلتها ولا الافتعال الفج غير المبرر؛ بل إنه يحمل عيناً وقلماً أشبه بالكاميرا والفيلم مع لمسات مونتاجية تزيد من فاعلية الحدث الذي يقدمه في إنكار تام للذات التي قد تكون هي أبرز ما في التجربة، بل قد تكون الذات هي البطل الرئيس للقصة إلا أن القاص الرائد بما يحمله من خبرة فنية قديرة يستطيع توجيـه أحداثه توجيهاً يفرض على التجربة المعادل الموضوعي الذي قد يحول الذاتية إلى إيحاء جمعـي يصير معه البطل الفرد الذات معادلاً لثقافة كاملة، لنستعيد معاً شهادة موجزة لمحمود البدوي حول مادته الأدبية التي يستقي منها موضوعات قصصه، يقول البدوي: " أكتب من واقع الحياة .. وأبطال قصصي التقيت بهم وعشت معهم وأحببتهم جميعاً .. ولا توجـد شخصـية
خرافية أو خيالية في قصصي قط، وقد يولد اللقاء العابر قصة كما تولد المعايشة الطويلة .. ومن هذه اللقاءات تأتي قصة القصة .. " هذه الشهادة صدر بها البدوي عددً ا من المقـالات القصصية الشائكة التي سماها قصة القصة، فدل بتلك المقالات على أمر مهم جدًا هو ما كان يعاني منه المجتمع الأدبي من عشوائية، بل وما يزال يعج بهذه العشوائية إذ كان لزاما ً علينـا منا قشة البدوي عندما كان بين ظهرانينا فيما يقدمه من " قصص القصـص" أو بمعـنى أدق وأكثر وضوحاً ما وراء القصة أو المادة الخام للمادة الفنية قبل أن يدخل إلى النسـق مقـص الرقيب؛ كان علينا أن نستهتن نبعه ونستزيد دره منذ يناير عام1984 عندما بدأ نشر تلك المقالات شديدة الخصوصية والتي يطمح النقاد كثيراً في الحصول على أمثالها لتسهيل عمليـة الغوص في الأعمال الأدبية لأدبائنا الكبار، وقد كان ليحيى حقي تجربة سابقة علـى تجربـة البدوي وهي المعروفة باسم خليها على الله، ثم كناسة الدكان .. لقد خضع محمود البدوي لعدد من العوامل التي أدت دورًا مهماً في تنشئته الفكريـة والأدبية أول هذه العوامل البيئة التي نشأ فيها، إذ كان للقرية وتقاليدها الأثر الكبير في بعض أعماله بل تحول هذا الدور إلى دور رئيس يحرك الأحداث : يبنيها ويوجهها؛ ثم بعد ذلك نجد عاملاً آخر هو ارتباطه بالمدرسة الحديثة أو على الأدق منجزات المدرسة الحديثة، إذ نشأ في ظل أفكار مدرستي السفور والفجر وهما مدرستان عنيتا بالقصة عناية كبيرة، و قد نهل البدوي منهما بعد أن قُعِّدت اتجاهاتهما واستقرت رؤاهما وآتت أُكلها في أعمال محمود تيمور ومحمود عزي وغيرهما، وقد شجعت هذه الاتجاهات قراءة الآداب الأجنبية ونقلـها والتـأثر بها وبتجاربها، ويبدو أن البدوي تأثر بها لدرجة أكبر مما كان متوقعاً فتحول من مجـرد متلـق للثقافات إلى رحالة يبحث عن تجاربه خار ج حدوده الإقليمية فسافر شرقاً وغرباً من اليابـان شرقاًُ إلى أمريكا غرباً إلى أطراف الاتحاد السوفييتي السابق شمالاً …؛ فكانت المؤثرات المحيطة به في حياته الاجتماعية والعملية هي العامل الثالث في منظومة عوامل تنشئته الفكرية والأدبية فتأثر بالسياسة والأيديولوجيات المعاصرة لتجربته كما تأثر بالسفر والترحال من بلد إلى بلد، وكان السفر من أبرز التجارب التي استمد منها محمود البدوي أعماله، فكثـرت نماذجهـا وتنوعت بل إنني أرى أن أعماله التي تناولت تجارب مستقاة من مادة الترحال هي من أقوى أعماله واتجاهاته الفنية .
واسمحوا لي أن أقدم رؤية عاجلة أو متعجلة حول إحدى تلك التجارب وأسلوبه الفني
في معالجتها، وما تلك من بين كم ما لدينا من أعماله سوى قصة ( التفاحة ) التي أعدها مـن أقدر قصصه على عرض عدد من الاتجاهات الفنية والأسلوبية لدى محمود البدوي .
قصة التفاحة تحكي عن لقاء لم يشأ له البدوي أن يكون عابرًا بينه وبين فتاة يابانيـة في شارع جيترا بمدينة طوكيو، نجد أن الأديب يستخدم الأداة الأولى التي يجب علـى القـاص استخدامها أولاً حتى وإن تأخر ظهور دورها عند الصوغ، لقد استخدم العين الفاحصة التي تسجل كالكاميرا، ليس عنده مسكوت عنه داخل المشهد؛ فليلته كانت من ليالي السبت، سيره كان منفردًا، وكان في شارع جيترا، وجيترا في طوكيو، وطوكيـو متألقـة بمحالهـا التجارية، ومحالها التجارية لها أنوار زاهية، من حوله مارة يرتدون زياً مختلفاً وكلهم لهم أناقة بالغة، النساء من بين المارة لهن رونقاً ومنظرًا يستهوي النفس ويأخذ بمجامع القلب وهن في لباس الكومينو..، ويظل محمود البدوي على مثل هذه الشـاكلة حـتى يـدخل إلى أدق التفاصيل وكأنه قمر صناعي يبدأ بنظرة شاملة بؤرية حتى يصل إلى التفصـيل الأدق الـذي يقصد إليه، فقد استخر ج البدوي من بين النساء اللائي يرتدين الكومينو : فتاة يابانية إلا أنها لم تكن في زي ياباني، بل كانت ترتدي زياً أوروبياً وهنا ينقلب الحال لدى المتلقي الخـاص، فمحمود البدوي ممتع جدًا إذا كان مجرد قاص راصد بلا قضية، تتوالى صـوره بتفاصـيلها وكأن قارئها يعيش في قلب الأحداث وكأن الأحداثَ حلم ممتع، حتى وإن كانت قاسـية، فقلم محمود البدوي يسبغ عليها جمالا ً وفتنة . أقول إن هذه هي القاعدة العامة لتلقي أعمـال محمود البدوي التي يشترك فيها عامة المتلقين، غير أن الأمر يختلف تمامـاً لـدى القـارئ المتخصص والدارس المتعمق إذ يجد كل منهم وراء الصورة الغفل الزاهية قضية فكرية كبرى إذ تحمل الجملة الواحدة ما لاتحمله كتب علوم الاجتماع والنفس والتاريخ، فهو مثلاً رأى فتاته ثلاث مرات متتاليات صدفة في أماكن مختلفة، تقف بهيئة واحـدة ليصـورها مصـور فوتوغرافي، فعرف أنها موديل تصوير؛ ثم فوجئ بها للمرة الرابعة أو المصادفة الرابعة نادلة في مقهى، ويبدو أ نها من فتيات الجيشيا الشعبيات وهن يرتزقن من الأعمال المختلفـة أدناهـا التصوير والعمل بوصفهن نادلات، وأعلاها البغاء .
دخل البدوي إلى مقهى صغير بعد جهد التجول في المدينة الضخمة، بالمقهى سبع فتيات حسان يخدمن الرواد، ويقول :
" وانحنت أمامي حسناء تسأ لني في أدب ورقة عما أطلب.. ، ولقد عرفتها في الحـال
كانت هي الفتاة التي شاهدتها منذ ساعة تتصور في الطريق وقلت لها وأنا أنظـر في السـواد المتألق في عينيها :
- زجاجة صغيرة من البيرة .
- لا يوجد هنا بيرة .
- لا توجد بيرة ؟!
- إطلاقاً إنه مقهى كما تر ى، فيه قهوة وشاي وعصير فواكه، ويمكن أن تطلب وجبة
خفيفة .
- إذن سأشرب قهوة ..
- حالاً .."
وهناك مشهد آخر يجب عرضه وضمه إلى المشهد السابق قبل تأملهما معاً والحديث عن معطياتهما الفكرية الخاصة المضمرة ..
" كان ثمن الفنجان 60 يناً .. فأعطيتها قطعة بمائة ين ولما ردت الباقي قلت لهـا إنـه
بقشيش .. قالت برقة وقد احمر خداها : - إننا لا نأخذ بقشيشاً ؟.
- لماذا ؟ ..
- قالت : هذه تقاليد القهوة !!
وإذا أضفنا إلى المشهدين السابقين مشهدًا آخر يتعلق بالنادلة، إذ سألها :
- هل كانت الصورة كتذكار ؟
- قالت أبدًا .. إن المصور يبيعها لمجلات أمريكية .. فوج .. ولوك ..
- وكم تأخذين عن الصورة ..
- قالت : خمسمائة ين،
فتعجب قائلاً :
- خمسمائة ين، إنه يبيعها بمئات الجنيهات ..
- قالت : إن العملية لم تستغرق أكثر من نصف ساعة، والخمسمائة ين لا بأس بهـا لفتاة مثلي ..
هنا يتضح الفارق الكبير بين العقليتين : الشخصية اليابانية، والشخصية العربية، فهناك فجوة كبيرة في التفكير وأسلوب مواجهة الحياة : فهو مثلاً يتناقض مـع عقيدتـه وتقاليـده فيطلب البيرة باستمرار وفي أي مكان وأي وقت وهي ترتدي ملابس أوروبية للتصوير، وهنا تماثل في التمرد على التقاليد الخاصة لكل منهما، أما الفارق بين الشخصيتين ففي اليابان فارق بين المقهى والمشرب، كما أن هناك رؤية واضـحة للبذل والعائد، فبينما بطل القصة نظر إلى ما سيأخذه المصور من وراء لقطاته، نظرت الفتاة اليابانية إلى قيمة ما ستبذله، ويقابل ذلك أيضاً أننا نمنح دون تفكير وليس هذا سـخاء بـل ترهل وعدم مسئولية وسوء تقدير بينما في اليابان يرفضون أن يأخذوا دون وجه حق ..
ننتقل أيضاً إلى مقارنة عقلية أخرى، فبينما هو يشعر عندما أمسك بيديها أنه ليس في الوجود كله ما يمكن أن يفصله عنها .. ثم عندما وصلا إلى الفندق وجد نفسه يسير بهـا إلى المصعد ومنه إلى غرفته، وقد جلب معه تفاحاً ليأكلاه معاً.." خلعت الفتاة سترتها وأخذت تأكل من التفاحة وهو يقضم قضمة ويقبل فمها مرة .. هنا عشوائية في الأخـذ، بـل لي أن أسميها حيوانية في الرغبة لم تظهر وتتجلى إلا عندما يطرح الكاتب كعادته النقيض في التفكير والأسلوب والأداء بعد أن أكلت تفاحتها قامت إلى الحمام لتتزين وتتخفف من بعض ملابسها .. كل شيء لدى أصحاب تلك العقلية يتم بمعيارية دقيقة، يقابل ذلك عشوائية وانـدفاع لدى العقلية العربية، فعندما دخلت إلى الحمام ألقى بالتفاح المتبقي في سلة المهملات كـي ينشغل بقضم تفاحة أخرى لكنها من لحم ودم، فلما خرجت ولم تجد التفاح سألت عنه ولمـا علمت أنه ألقاه في السلة لقنته درساً جديدًا إذ أخرجتها وغلفتها في ورقة .. ليبدأ التحول في الشخصية المقابلة، وكانت أولى علامات التحول إحساسه بأن فقرها إلى التفاحة التي حملتها إلى والدتها التي لم تذقه قط، أحس بلسعة سوط مزق لحمه وذابت عواطفه الجياشـة تأسـى عليها، فبدأ ينظر نظرة أخرى إلى تلك الفتاة التي تزينت وخففت كثيرًا من لباسها .. فلمـا أخبرها بأنه لن يخلع سترته بل سيصحبها إلى أمها، ضغطت على يـده، فشـعر بـالحرارة الإنسانية للمرة الأولى، الحرارة الخالصة للنفس البشرية، الحرارة المتدفقة من أعماق القلب، وكأن ميزانه البشري وعقليته قد اعتدلا وأشير هنا إلى ولوع البدوي بـالجنس واسـتخدامه بوصفه تيمة في أعماله، بعضه مقبول وجله مردود عليه ..، هذه ليست رؤية لأعمال محمود البدوي بل تطواف سريع ومشاركة عجلى أدعو الله أن يتيح لي من الوقت والجهد ما أستطيع معه وبه تدارس أعماله بشكل عملي علمي .. ولكم التحية ..
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
alauddineg@yahoo.com

هناك تعليق واحد:

alyabdellatif & lailamahmoudelbadawy يقول...

أشكرك أيها الأخ الكريم على هذه الدراسة التى استمتعت بقراءتها

وأقول :

فى هذه القصة " قصة التفاحة " ( نشرت فى كتاب غرفة على السطح ـ مايو 1960 ) يلتقى ( المؤلف ) مع فتاة جميلة ويتجولان فى الشوارع ويدخلان المرقص ، وبعد أن يشترى أربع تفاحات ، يعودان إلى الفندق ، ويجلسان فى غرفته ، فى جو يشبه ألف ليلة وليلة فهو يقضم التفاحة ويقبل شفتيها .. وبعد أن قضم التفاحة الأخيرة وجدها معطوبة فألقاها فى السلة ..

ولكن الفتاة أخرجتها ولفتها فى ورقة وتقول له أنها ستعطيها لأمها لأنها لم تذق التفاحة فى حياتها ..

حينئذ ينسكب الماء البارد على جسد المؤلف ويستيقظ ضميرة لأنه من بيئة عربية إسلامية ويعى أن الفتاة لم تسلمه نفسها إلا بسبب حاجتها إلى المال ، فتعاف نفسه لأنه كان يتطلع إلى الحب الذى يقوم على الإنسانية أكثر مما يقوم على الحاجة ، وهذا يفوق عنده كل رغبة أو شهوة ..

ويجعله يكشف فى نهاية القصة وبأسلوب مباشر عن مشاعره الداخلية ، ثم يقول لنفسه

" وفاضت عبراتها .. فأمسكت بيدها .. وضغطت على يدى وشعرت بالحرارة الإنسانية لأول مرة .. الحرارة الخالصة للنفس البشرية .. الحرارة المتدفقة من أعماق القلب .."

مع خالص تحيات
على عبد اللطيف
mahmoudelbadwey@hotmail.com