2007/11/14

بنية الاستهلال في ديوان ذاكرة أسير لها

هذا كتاب الحب
بنية الاستهلال في ديوان ( ذاكرة أسير لها )
بقلم : علاء الدين رمضان
النشر الورقي : هذا كتاب الحب، مجلة الشعر، اتحاد الإذاعة والتليفزيون، القاهرة يوليو 2003.

· استهلال :
هكذا يخرج الشعراء إلى الموت ..
قصائدهم من نحاس ..
والمسافة ما بين سطرين مترعة بالجنود
علاء الدين
** إلى روح الشاعر الراحل مشهور عبد الله الأنور فواز
تتسم أعمال الشاعر الراحل الدكتور مشهور فواز بفيض من السمات ذات الفنية العالية التي يحدوها وجدان شاعر وعقل عالم؛ لكن أهم سمات مشهور فواز أن لقصائده اكتنازاً فنياً يتبلور في عدة مظاهر مهمة من بينها التراكيب المحكمة عالية الجودة صياغة ولغة، والتكوين الغني ذو العناصر القادرة على التجزؤ والتحلل إلى صيغ فنية وسمات ذات جودة مستقلة وقيمة أدبية مقدرة؛ الأمر الذي يجعل قيمة تلك العناصر المقبولة فرادى والمقدرة وحداناً، أشد وأكبر وأهم في صيغتها الكلية عندما تتحول إلى زرافات مجتمعات في بنية كلية .
وقد وجدتني مشدوداً للحديث عن كل سطر في دواوين الشاعر الراحل، لكنني آليت على نفسي – في هذا المقام – إلا أن أحصر توجهي في نقطة واحدة ، فكانت تلك النقطة هي الفاتحة ومنطلق النصوص ( الاستهلال )، ثم قررت أن أتحدث عن فنية الاستهلال في قصيدته الطويلة ( ذاكرة أسير لها ) ، وحاولت الاختصار قدر الإمكان في عرض أفكاري حيال موضوع الدراسة .

· هذا كتاب الحب
لقد عد الاستهلال في الشعر الحديث من أهم المفردات المجددة التي حملت تصورات الحداثة وآفاقها ن وعلى الرغم من ذلك يغفل شعرنا الحديث وكثير من الحداثيين أهمية الاستهلال في قصائدهم فلا يهش الشاعر للجملة الفاعلة وإنما أغرقوا في أسسهم التحديثية وهي البنى الثقافية والولاء لها، فكان ذلك دافعهم لاستساغة ظهور ملامح تلك البنية في قصائدهم دون حرج فني ، فتحولوا من صمت مشحون بالظلام إلى كلام أخرس .
وقد قيل في النقد العربي منذ القديم أن كل ما يتضمنه النص موجود في فاتحته، إذ عد الاستهلال خريطة متكاملة للنص تحوي الاتجاهات الفنية والمعرفية فيه ، وكل ما يتضمنه من أنساق يفصلها الشاعر أو أسلوبه أو اتجاهه الجمالي في صياغته التالية داخل النص .
وقد زادت العناية حديثاً بالاستهلال إلى حد فاق كل تصور حتى تحول من مجرد بنية جمالية مشيرة وفاعلة في آن واحد ح إلى بنية قاعدية لها منهج وأقسام وأساليب قادرة على تعميق الدور وتحفيز الأداء ، فعمد الشعراء من وراء النقاد إلى تكرار الاستهلال في صلب النص أو في خاتمته ، أو في صلبه وخاتمته معاً ، أو موالاة التكرار في محطات نصية بعينها، ومنهم من أجاد ومنهم من قصر عن الإجادة، ومنهم من أجاد في موطن وقصر في آخر .
وقصيدة ( ذاكرة أسير لها )، من تلك القصائد التي عني فيها شاعرها ذو الوعي المنهجي الناقد ، الذي لا براءة له من المنهج ولا الترتيب المنطقي، عني في قصيدته بمسايرة الوضع الجديد للاستهلال الواعي فأجاد، ولكنه بوصفه عالماً أسبغ على استهلاله ما ألحق به من الأمور ما التصق بشعراء الحداثة الثقافية، التي تُعْلِي – عن قصد أو دون قصد – القيمة المنطقية والمعرفية، فوق القيمة الجمالية في سعيهم نحو المنطق الجمالي وتقعيده .
وكان من الأنماط التي أصابت الاستهلال – فيما أرى – التأكيد على المدخل التعريفي للحالة أو النمط الوجداني الذي يقصد إليه الشاعر، ويتوجه نحوه معبراً ، فامتلأ ديوان الشعر العربي وغص بالمطالع التي تتجه نحو التعريف والبسط والتمهيد وصناعة الأرضية دون العانية بالمدخل الوجداني المثير لغة وتركيباً وفنية وبراعة، وقد كان الاستهلال في الشعر العربي من أبرز المساحات الفنية والساحات الأدائية التي تتجلى فيها قيمة وقدرة الشاعر على الأداء والبراعة فيه، بل جعلها كثير من المتذوقين الأساس الأهم في التناول الشعري، وإن كان في هذا التوجه إجحاف للقصيدة، لكنه عند أهل الذوق له وجاهة مقدرة ، ليس من السهل التنازل عنها والحق أن الكلام الجميل هو الذي يعلق في الوجدان قبل الخاطرة ويستسيغه القلب قبل العقل ، فكثرة من العبارات الجميلة الرائعة المحببة إلى نفوسنا في قصائد لشعراء كبار تفتقر إلى النسب الصياغية الدقيقة وفيها تجاوزات منطقية عديدة ، ولكن ما لنا والمنطق ؟.
وقصيدة ( ذاكرة أسير لها ) للشاعر مشهور فواز من تلك القصائد التي أجادت في بنيتها الاستهلالية في أنحاء فنية لها قيمتها ، لكنها كانت حبيسة المقاييس الحداثية، فكان استهلاله فيها من ذلك النوع المجيد المقصر، لكنه والحق يقال كان أكثر إجادة وأقل تقصيراً ، إذ انحصر تقصيره في كونه استهلالاً تعريفياً استطاع الشاعر أن يعالج قصوره بما صنعه من انزياح في البنى الدلالية في تتمة تعريفه لكن بقي التعريف في ذاته هو القصور الذي ربما كانت تفيد منه التجربة لو بقي الاستهلال خالصاً دون هاء التنبيه أو اسم الإشارة بأكمله :
( هذا كتاب الحب )
عشب طازج يلتف حول القلب
تاريخ اليقين
ووردة في عروة الأيام
مجد خالص كالمجد ..
.. .. .. .. .. .. ..
وكأنه لا بد من وضع الحد التعريفي لكتابه / قصيدته ، متنكراً لما كان يسود الشعر العربي من فروق قاطعة بين الفن والمنطق ، فالشعر يشير إلى وجدان التجربة بينما العلم يمارسها، ويضع لها الأطر والقوانين ، لذا لسنا مطالبين بالبحث عن كنه الكتاب وليس بالضرورة على الشاعر أن يعرفه لنا ، بل يأخذ بأيدينا كي ندخل الكتاب لا نقرأ فيه، وإن كان مشهور فواز قد انساق مع التيارات المجددة في هذا السياق إلا أن غريزته الفنية وأصالته بعد فقد جزء من قيمة الاستهلال في التجربة وخسارة القصيدة لنمط مهم من الأنماط الفنية ، ردته أصالته إلى استغلال ما يمكن أن يُطلق عليه تذويب المتلقي في النص، مع اعتراضي الواضح على المدخل التفسيري التعريفي، وما إلى ذلك ، فبعد أن استفاض في تعريف كتاب الحب في انسياق تراكمي استغرق عشرة أسطر من القصيدة ، تخلص من الاتجاه المنطقي ( أو الفقهي ) ، إلى جذب القارئ للدخول في الحالة بعرض حالة الشاعر مع كتابه :
ممتزجاً به ،
أصف الحضورَ،
أصبُّ مائي في حواس الأرض ، ..
وفي دعم فني لبنية نصه يستخدم الشاعر أسلوب التكرار لهذا الاستهلال وهو ما يسميه النقد الغربي Anaphora ، وهذه ظاهرة فنية عرفها الشعر العربي منذ القديم ، ومن أشهر نماذجها تكرار المهلهل لجملته الاستهلالية : ( قربا مربط النعامة مني )، واطرد الأمر حتى وجدنا عدداً من الشعراء المحدثين استغل هذه الفنية في قصائده، مثل بدر شاكر السياب عندما كرر في قصيدته " الأسلحة والأطفال "، جملة الاستهلال : ( عصافير أم صبية تلعب )، خمس مرات في تضاعيف القصيدة ؛ كذلك فعل الشاعر مشهور فواز في قصيدته " ذاكرة أسير لها "، في جملته الاستهلالية، إذ كررها ثلاث مرات :
هذا كتاب الحب ، عشب طازج ( ص 9 ).
هذا كتاب الحب ، تلبسه السماوات التي عبست كثيراً ..( ص 17).
هذا كتاب الحب ، لي فيه اكتمال الحلم .. ( ص 19 ).
هذا العدد إذا كان مقصوداً من الشاعر فهو لا يشي إلا بعقلية منطقية دقيقة ومركبة، وإن كان عفواً فلا ينم إلا عن فطرة تفاعلت مع البيئة التي نشأت فيها ، ومع كل مفرداتها المحيطة ، وهي من السلامة والاستشراف بمكان .
فإذا كان الاستهلال مقصوداً فالشاعر هنا يقدم لنا في بنية عقلية ذات بعد معرفي فطن ، تجربة وجدانية تدور بين الأرض والسماء ، ثم يفرغ ما بينهما من واقع ويعيد صياغته مجدداً ليحشوه بالحلم المكتمل الذي له فيه؛ أي في الكتاب .
أما إذا لم يكن مقصوداً هذا الاستهلال على ما هو عليه فإن الشاعر قدمت روحه لنا كل هذه المعاني وأضافت إليها التأثر بالنمط الشعبي الذي يميل أولاً إلى التكرار ، ثم يحدد هذا التكرار كثيراً في أعداد معظمها فردي وِتر ، وهو من الاتجاهات التصوفية داخل النفس، وهنا أفكار ( ميتا اجتماعية )، قد تثير حفيظة البعض ضدي وضد الشاعر، اسمحوا لي أن أحتفظ بها لنفسي، وبخاصة لأنها من مستطردات القول ونوافله، وليست من صميم الدرس النقدي أو الأدبي في شيء .
لأعود إلى الاستهلال في قصيدة ( ذاكرة أسير لها )؛ لقد بلور الشاعر تجربته في القصيدة محدداً ثلاثة محاور رئيسة تدور حولها الصياغة كان لكل محور منها صورة استشرافية في الاستهلال أو تكراراته :
* أولها : الأرض / الواقع ؛ العشب الطازج ملتفاً حول القلب وتاريخ اليقين والوردة التي تزين عروة الأيام والمجد الوجداني الخالص الذي يشبه المجد الواقعي .. إلخ ؛ وهنا يشير الشاعر إلى أنه متعقل في صياغته للتجربة التي تستحق الاهتمام ، وأنها تجربة إنسانية خالصة ، لم تنطلق من مجرد الانبهار بزوجه وامتزاجه بها وتلبسه بمحبتها، وإنما من وجود قرائن إنسانية تحولها إلى صيغة أشبه بصيغة المثل الأعلى الذي يضمه كتاب الحب الذي جعله الشاعر مناطاً للحديث منطلقاً وهدفاً :
ممتزجاً به ، أصف الحضورَ ،
أصبُّ مائي في حواس الأرض ،
في نهمٍ أهيئُ سلطتي للعزفِ ..، ( ص 10 ).
* ثانيها : الأفق / النبوءة ؛ فكتاب الحب هو المخلص الذي ستلبسه السماوات التي عبست كثيراً؛ والذي إذا تنزل صدقته رأته معجزة، ورأت بعينيها براءته، فلم تمتلك سوى أن ترتديه ليومها الموعود؛ وهنا يعرض الشاعر لصورة المدى المقيد المقترن بالواقع المشدود بين المادة الملموسة وتصورات الطموح والنزوع للحلم ، فقد قيد النبوءة الساطعة بالحنين الآدمي ، طموحاً إلى الرقي نحو مملكة لها سمت الهوى وبراءة الأنداء ..!!
* ثالثها : استشراف الحلم المكتمل والنبوءة بامتزاجه في الواقع :
هذا كتاب الحب ، لي فيه اكتمال الحلم ،
والإيراقُ " هالة " ، ..
سيرة ستسود ..
ويبدو الشاعر دائماً متعقلاً مرتبطاً بالواقع ملتصقاً بأرضه ، وإن طال الحلم وبسق في سماواته، فيشير إلى أن كتاب الحب لا يشط به المدار في أي اتجاه ، بل هو محصور في الحديث عن عائلته :
لا أتأول الأسماء ،
لكني أشير إلى الهوى ،
وأقول عائلتي ،
أنا وفضاؤها والحب،
والجمر الذي رد الحياة إلى الحياة ،
واصطفى بيتاً لنا من نسج أيدينا ،
نطارد فيه حلم الاكتمال ..،
ومن هنا بدأت التجربة المتنية للقصيدة ، أي غادر الشاعر الملفوظ الامتدادي لصياغة الاستهلال إلى المتن، ودخل التجربة الحقيقية للقصيدة ، وامتداداتها الوجدانية ، وذلك بالحديث عن تلك الذاكرة التي يسير إليها الشاعر، فيصير أسيراً لها، والتي أصر منذ عنوان الكتاب وحتى خاتمته على تجريدها من بنية التحقق والغاية ، ربما لإكسابها امتداداً وعمقاً واطراداً واستمرارية، وقد نجح في ذلك ؛ إذ حافظ حتى السطر الأخير من القصيدة على هذا الكيان الأعلى الذي يستقبله الشاعر ويتجه إليه بكل وجدانه وعواطفه ، فهو يسير إليه دون أن يشير إلى تحقق الوصول التام الذي إن طرأ على القصيدة ، فإنما يظل حبيس البنية الاجتماعية الخاصة والدقيقة برجل يكتب قصيدة عن زوجه التي تعيش معه وتشاركه إرث العناء وخطو الكدح ومرارة التجربة ومولد القصائد، إلا أنه عندما يعود للحديث عن الكيان المجرد الذي يشاركه الفكرة والتأويل ، يجعلها قيمة عليا ويبدو ذلك جلياً أن الكاتب كان يُعلي من قدر زوجه لديه ويضعها في مكانة كبيرة وسُدَّةٍ عظيمة ، ولذلك حول البنية اللغوية إلى الاستقبال المحض عند الالتقاء :
تقول :
حصدتني في موسم الجرح ،
انطلق بي – مثلما أمَّلتُ –
حتى موسم الفرحِ ،
استعدني من دروب الشوك ،
قلتُ :
لنا سطوعُ الصدق ،
.. أحلامي كلامي ، والندى وقتي ..
وأنت غنوتي في نبرتي فرحٌ يشير إليك ،
فاستلقي على صدري ،
سأطعم شرعتي ثمر الهوى ،
وسنسترد معاً دفوف النصر
نلبس زيتنا لغة
ونرفل في الضياء .
على أية حال ؛ إن الاستهلال وإن تعددت صوره التي يصف بها الشاعر ( كتاب الحب ) ، ومهما ألح الشاعر على قيمته الدلالية بالتكرار ، فإنه يمضي مثقلاً بالدلالة ، يرف في خفة فنيته إلى هدف محدد هو الولوج إلى أبد النور في رفقة اللغة :
نلبس زيتنا لغة ..
ونرفل في الضياء ..( ص 58 ).
أما هذا الأسلوب الذي لا يقر الاكتمال المادي للتجربة ، هو القيمة الدلالية للنص بأكمله ، فالشاعر يرى زوجه منهلاً لا ينفد مهما أخذ منه ، لذلك جعل الشاعر تحقق الالتحام والامتزاج الإنساني وارداً ، لكنه راوح بزوجه بين واصلة من اكتمال الحلم وطموح الواقع مؤملاً مستقبلاً اغتالته الأيام فتركته حلماً مكتملاً وواقعاً مطعوناً ؛ وتركتنا حزاني ليس لنا من بعده سوى القصائد التي تصرخ فينا بصوت الشاعر وبنبض روحه لتذكرنا أن غرسه في طين الشعر يافع وثمره يانع وطلوحه منضودة وظلاله ممدودة .
ولكم المحبة
علاء الدين رمضان

ليست هناك تعليقات: